مراقبون : بقلم الكاتب الاستاذ وائل غازي شعبان
#مراقبون
بدأ تشكّل نواة فنّ المراقبة لديّ في عمرٍ مبكّرٍ جداً، وهي فطريّةٌ بامتياز، ومتساويةٌ عند الجميع وتبدأ بالتّمايز لحظة انتهاء الأربعين يوماً الأُوَل من العمر، لكنّها تبلورت فعليّاً من خلال رحلات الذّهاب إلى، والإياب من الجامعة، وحينما تخرّجتُ مهندساً، منحتُ نفسي شهادة مراقبٍ لا يشقّ له شرودٌ..
لفت انتباهي -من ضمن مقتنياتي- رجلٌ يكاد يكوّن لوحةً شديدة الانتظام، والرّقة، فرحت أراقبه أكثر من ذي قبل..
يخرج من بوابة داره المكسوّة بظلال الياسمين في نفس التّوقيت يوميّاً.. وبعد فترة وجيزةٍ، صرت اضبط خروجي من الدّار على لحظةٍ يُعاد تكرارها برتابةٍ تصل حدّ التّطابق بنسبةٍ كبيرةٍ، حتّى إنّني وبعد امتلاكي أوّل سيارةٍ، صرت أجد نفسي مضطراً للانتظار أحياناً لبضع ثوانٍ قبل أن أدير مفتاح المحرّك، بما يحافظ على صيرورة التّطابق تلك..
كنت أراه وهو يمشي بخطواتٍ واثقةٍ وخفيفةٍ جدّاً وقد جعل الأناقة عنواناً لهندامه والابتسامة إطاراً لوجهه، محاطاً بثلاثة عطورٍ، وكأنّ عطوره ثلاث عشيقاتٍ مراهقاتٍ يتناوب عليهنّ دون أن تشعر التّالية بأيّ أثرٍ للسّابقة، لكثرة ما يغازلها، ومن حينها وأنا أحافظ على برنامج الثّلاث مراهقاتٍ.. وعلى عادة المشي الهادئ الرّزين حتّى ولو كانت الدّيناصورات تلاحقني..
لديه زاوية صغيرة، تحتاج إلى الدّقة في التّعامل مع الأشياء، فهي مزدحمة بتفاصيل العمر، ولقد راقبته وهو يزاحم فيها الكلمات، وعرفت كيف يمكن لي أن أضع ستّين عاماً في شطرٍ بسيط قوامه ستّ كلماتٍ: وسائلي عن شبابٍ فات قلت لهُ.
راقبته وهو يلقي لي فريد خرائده، وجديد قصائده، وعرفت كيف أشعل الغاز دون أن أحرق أشعار أناملي، وكيف تُرشف القصائد ويُستمع إلى القهوة..
كنت أراقبه أيضاً وهو يهتمّ بزبائنه، ويكلّم كلّاً منهم بمفرداتٍ خاصّةٍ، ولم أغفل عن متابعة أسلوبه في فصل الحواس، فهو يرتّب الأشياء، ويجري الحسابات، ويعدّ النّقود، ويتكلّم بطلاقةٍ، وينظم الشِّعر في آن معاً..
لديه مهاراتٌ عاليةٌ بإضفاء لمسةٍ من الجمال على مريديه، يعرف ما يناسب خصر وناهدي كلّ امرأةٍ تقع عليها جوهرتا عينيه، ويستطيع أن يجعل أيّ شابٍ يبدو وسيماً..
يعمل وحيداً، ولا يهدأ، ولا يراه النّاس إلّا كسولاً، في حين أنّه يكون مشغولاً تماماً بمراقبة الأشياء من حوله، ولكن برتبة مراقبٍ إلهٍ..
ومع مرور الوقت، ومع تنامي ملكة المراقبة لديّ، صار لديّ سِفرٌ خاصٌ، وهذه بضع آياته:
• من يراقب عصفوراً بدقّة، سيطير يوماً..
• من يراقب الصّباح، لن يحتاج للعقاقير..
• من يراقب الطّرقات، سيستطيع التعرّف على أغلب عاهرات الحيّ ومنافقي المدينة..
• من يراقب السّماء، سيتمكّن يوماً من استمطار الغيوم عن طريق التّخاطر..
• من يراقب دالية العنب، سيصبح خمّاراً لا محالة..
• من يراقب الوجوه، سيعرف سعر الصّرف دونما نشرةٍ..
• من يراقب الفصول، سيصبح شجرة ليمونٍ موسميّة..
• من يراقب طفله وهو يرضع، سيعي كم تستمع النّساء بالألم..
• من يراقب ابنة الجيران وهي تنشر الغسيل، سيعرف أدقّ التّفاصيل العائليّة المحيطة به وبها..
• من يراقب أمّه وهي تعمل بثمانية أذرعٍ، سيتمكّن من فهم كوكب اليابان..
• من يراقب بائع الفول بجانب مدرسةٍ للبنات، سيصبح رئيس جمهوريّة أفلاطون..
• من يراقب أمّهات الشّهداء أثناء جنازات أبنائهنّ، سيفرح لكلّ شيء تقريباً، بما في ذلك أن تُزَوَّج حبيبته من رجلٍ لا يعلم عدد رموشها..
• من يراقب نبضات قلبه، سيكتشف الدّورة الدّموية للموتى..
• من يراقب المُصلّين، سيجد إلهً آخر.. أكثر منطقيةً..
• من يراقب ضميره، سيصبح شاعراً..
• من يراقب عينيك الآن وأنت تقرأين هذه السّطور، سيزهد في العيش، ثمّ سيثتثنيه إبليس من قائمة أغنامه، ثمّ سيحصل على تذكرةٍ إلى الجنّة، وسيُعرض عليه الخلود في الدّارين، ولكنّه سيختار الاتّحاد بالنّور، متخّذاً الفناء وسيلةً للربوبيّة.. الّتي ستتيح له خلق نظراتك والاستمتاع بها أنّى شاء!
تعليقات
إرسال تعليق