PNGHunt-com-2

بين مدرستين : الأديب العراقي كريم القاسم

(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بين مدرستين)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذات يوم ، وفي جلسةِ عموم.
دارَ حوار بين شاعرين على جَنْب .
إسترقتُ السمع .
كلاهما يستهزيء بالآخر عندما تحاورا حول مدرستَيِّ النحو (البصرية والكوفية)ثم عَلا حوارهما بعض القهقهات بسبب جهلهما بنشأةِ هاتين المدرستين ،وبإسباب الخلاف النحوي بينهما.
وبعد جهد مِن كليهما، توصلا الى ان سبب الخلاف هو مذهبي.
وهنا تبرز مكامن الجهل والبلاهة.

-ليس من المفروض على الاديب العربي ان يكون مُلزماً بمعرفة وخفايا الاختلاف بين المدرستين النحويتين البصرية والكوفية ، وليس إلزاماً عليه ان يعرف رجالات وأئمة هاتين المدرستين، لكن على الاقل لابد من الاطلاع ولو سطحياً على هذين النهجين لزيادة الخزين الثقافي والمعرفي ، لإبعاد الجهل والغفلة والشَطَط عن الذات ، فحتى الكثير من ادباء الغرب ومستشرقيهم عرفوا بل درسوا نهج هاتين المدرستين .

•لنتطلع الى سردٍ توضيحيٍّ مكثف ومختصر ومُبسّط جداً لما تَقدَّم، وبما حَفِظَتْهُ قصاصات الذاكرة:

-من الواضح للمتلقي ان كلّ مدرسة اتخذتْ اسمها من المدينة التي نشأت فيها، فإحداهما بصرية حيث نشأتها البصرة،  والثانية كوفية حيث نشأتها مدينة الكوفة .
ورغم اختلاف النهج بينهما الا انهما كانتا على اتصال دائم وتفاعل مستمر بكل ماهو مُستجد ، لاكما يتصور البعض بان اختلافهما هو نزاع ومشاجرة وصدام، بل مناظرات علمية موضوعية مُسندة بالحجج والبراهين.
فما يحدث في البصرة يجد صداه في الكوفة، وماتُستجَد من مسائل او يُشاع في الكوفة  تجدها حاضرة بعد أيام في البصرة.
وكثيراً ما شدَّ الرحال اصحاب المدرستين الى بعضهما للمناظرة والتواصل البحثي.

ولـكـن ؛

• أيهما نشأت أولاً ؟

-البصرة هي التي نشأت اولاً ، والتي كانت تمثل المُستقر لهكذا نهج ، ولذلك اسباب عدّة:

- الاستقرار السياسي الذي حضيت به البصرة يختلف عن باقي الولايات وخاصة الكوفة، حيث ان الكوفة كانت معقل السياسة ومركز خطط العسكر وصراع الارادات.
- تعتبر البصرة دار علم وأدب، فهي تضم عدد لايستهان به من المَوالي (غير العرب)وكان لابد لهؤلاء من تعلم اللغة العربية بإعتبراها لغة الدين ولغة البلاد الرسمية ،وضرورة اتقان اللغة العربية هو من الاسبقيات لديهم للتخلص من اللحن المصاحب للفظهم ، كون لسانهم غير دارج على نطق الحروف العربية بسلامة ودقّة . ولكي يتخلصوا من شظف العيش ، حيث كان مَن يجيد اللغة العربية من الموالي باستطاعته ان يتبوأ مكاناً مرموقاً يساعده على العيش بكرامة.
- انتشار حركة الترجمة في البصرة ، كَون الموالي لغتهم غير العربية، وعند تعلمهم العربية استطاعوا ترجمة العديد من كتبهم المهمة بدافع شخصي ، وأحيانا لضرورة يدعو اليها العربي صاحب البحث والتقصي عن أمرٍ أو شأنٍ ما.
فتُرجِمَتْ العديد من الكتب التي صارت بعد ذلك مصدراً مهماً لمدارس فلسفية وعلمية كثيرة ، وخاصة ترجمة كتاب علم الكلام لـ (أرسطو)
- بينما كانت الكوفة مُستقراً لحَفظَةِ القرآن وحَمَلة الحديث الوافدين من مكة والمدينة المنورة اثناء الفتوحات ، واستقرَّ فيها كذلك رؤوس القبائل العربية حتى غَلَبَ عليها الطابع العربي.
- اشتركت المدرستان في هدف واحد هو الخوف على لغة القرآن الكريم من اللحن والتحريف  .

•هذه الاسباب أدَّت الى نشوء إرادات للبحث والتقصّي عن علم الكلام وجزئياته.
فالذي يتعلم لغة جديدة لابد له من تقصّي بعض الحيثيات فيها ، وخاصة زحمة المِلَل والنِحَل بَدَتْ سِمة واضحة في المجتمع البصري آنذاك ، ولذلك نشأ في البصرة علم الكلام.

-إن هاتين المدرستان عاشتا مجابهات ومعارضات ومناظرات نحوية كثيرة ، وكل مدرسة تعتمد آراء وأدلة وبراهين تؤيد نهجها ، وكل مدرسة لها نهجها الخاص بها ، ولها معالمها الدقيقة وطرق بحثها التي تؤيد ما تؤول اليه .
فالمدرسة البصرية تتقيد بضوابط صحة المصدر وسلامة بُعده عن التأثر والاختلاط بالحضر.
اما المدرسة الكوفية فهي تتساهل في ذلك .
ومن هنا نشأ اصل الاختلاف.

بدأ هذا الاختلاف والتباين بالاتساع مما أدى الى اتساع مساحة الجَدل والسجال بينهما .
ان مدرسة البصرة تتميز  بالنوع القياسي ، فهي تعتمد مبدأ القياس في نهجها ، وهي أوسع قياساً وأضيق رواية، بينما مدرسة الكوفة هي  أضيق قياساً، وأكثر تشَعّباً، وأوسع رواية.
وتعتمد مبدأ ( الرواية) الذي يعتمده اهل الحديث واصحاب القراءات المعروفة، وتتخذ مصادرها من القرآن الكريم والامثال العربية وفصحاء العرب والشعر الجاهلي والشعر الاسلامي.

-مَهَّدَ اهل البصرة للحكمة الاجنبية الوافدة مما اثَّرَتْ في دراساتهم وابحاثهم ، ولذلك سُمي نحاة البصرة بـ (أهل المنطق)

هذه الظاهرة جعلت ثقافة البصرة مختلطة بالثقافة اليونانية من بداية الترجمة وخاصة في علم الكلام والفلسفة الكلامية.

-انتقلت الدراسات اللغوية في البصرة من كونها لغة فطرية الى لغة تحت مجهر الفلسفة والتحليل،ليضع النحاة لها قوانيناً وأسساً وقواعدا.

ان اهل البصرة والمشتغلين في هذا الحقل شغفوا باللغة العربية وعشقوها من خلال تقصّي حيثياتها، لذلك احاطوها بهالة من التقديس ، حتى طار بهم الحال الى انهم لم يجدوها ظاهرة اجتماعية خاضعة لقانون الاستعمال والتطور ،فجندوا كل ارادتهم وجهدهم لوضع قوانينها وقواعدها ، واحيانا كانوا يلجأون الى التأويل والتفسير حين لايجدون قاعدة تنطبق على حالةٍ ما.

-اما مدرسة الكوفة فشأنها شأن آخر.
فهي الولاية والمدينة التي تغص برؤوس قيادات حربية وسياسية وحفظة حديثٍ وقرآن .
ولذلك اهتمت المدرسة الكوفية بالمَروي والمسموع ، وإعتقدَ نحاتُها بأن هذين السبيلين هما الافضل والأصح للوصول الى قواعد اللغة واصولها.
ولذلك نجدهم لايستشهدون بأمثلة وشواهد من لهجات عربية كانت ملاصقة ومجاورة ومتاخمة لاقوام غير عربية، حيث انهم أهملوها وتغافلوا عنها.

•لذلك يقول جلال السيوطي:
(اذا سمعوا لفظاً في شعرٍ أو نادِ كلام جعلوه باباً)

-لان نحاة الكوفة يهتمون بالرواية والسماع ، ويعتمدون الدقّة فيهما.

•لنأخذ مثالا على ذلك :

اختلف الكوفيون عن البصريين في اشتقاق (الاسم) حيث انهم استبعدوا الاساليب الفلسفية ، فهم احتجوا على البصريين واعتبروا ( الاسم) مُشتق من (الوَسم) والوَسم هو العلامة في اللغة.
وقالوا:

-اذا قلتَ ( زيد أو عَمر )دلَّ على المُسمى، وصار كالوَسم عليه.

بينما احتج البصريون وقالوا:

-ان (الاسم) مشتق من (السمو) والسمو  في اللغة هو ( العلو ) وقالوا:

-سُميت (السماء) سماءً لعلوها.
والاسم يعلو على المُسَمّى.

•ولنأخذ مثالاً آخرا :

-احتجَّ الكوفيون بأن الفعل المضارع مرفوعاً عند تعريته من النصب والجزم.
وهذا مامتعارف عليه عند قرائتنا للقرآن الكريم أو أشعار الاولين.

-اما البصريون فانهم احتجوا بأن الفعل المضارع يكون مرفوعاً بوقوعه موقعاً يصح وقوع الاسم فيه ، فعندما نقول ( زيد يضرب)فتقدير الرفع هنا يكون معنوياً ويعرف بالجنان حتى وإن لا يلفظ باللسان.

ولا يتصور البعض بأن هذين النهجين إتّجها بهذه البساطة ، بل قاد المدرستين فطاحل النحو من العرب وغير العرب، فالمدرسة الكوفية اشرقت بنحاة كبار كـ (الفرّاء واللحياني وابن السكّيت والكسائي ) وغيرهم .

اما نحاة البصرة؛ فهم مَن كان لهم السبق في هذا النهج النحوي كـ (سيبويه والفراهيدي والمازني وابو الاسود الدؤلي والاصمعي والمبرد) وغيرهم .

هؤلاء الكوكبة هم الذين حافظوا على اللغة رغم المساجلات والمناظرات بينهما ، لان هدفهما واحد وهو حماية اللسان العربي من اللحن أو الخطأ ، والحفاظ على اللغة العربية ، وجعلها مُيَسّرة لمن أراد تعلمها من غير العرب.

•والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.

•احترامي وتقديري.

(كريم القاسم)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي