PNGHunt-com-2

قطاف نقدي في بيت شعري) :الناقد العراقي كريم القاسم

((أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(قطافٌ نقديّ في بيت شعري)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور (عبد الحسن علي زلزلة) هو اقتصادي ودبلوماسي وشاعر عراقي.
تخرج من كلية الحقوق ببغداد، ثم حصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الامريكية.
عين نائبا لمحافظ البنك المركزي ثم رئيسا لدائرة الأبحاث في البنك المركزي العراقي ، وساهم في التخطيط والتشريع لخروج العراق من المنطقة الإسترلينية الاقتصادية لتعزيز استقلاله الاقتصادي بعد ثورة 14 تموز 1958، ثم شغل منصب سفيرا للعراق ، واختير وزيرا للصناعة ، ثم وزيرا للتخطيط . واشرف  برئاسته على الخطة الخمسية للعراق ، ثم عين سفيراً في فينا ثم القاهرة ثم مونتريال ،ثم عين بطلب من الجامعة العربية اميناً عاماً مساعداً للشؤون الاقتصادية .
شارك بوضع إستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك وميثاق العمل القومي الاقتصادي وعقد التنمية العربية المشتركة وتقديمها إلى أول قمة اقتصادية عربي.
رفد المكتبة العربية والعالمية بالعديد من المؤلفات الاقتصادية والأدبية .
هذا العملاق الاقتصادي العراقي والذي مات ـ كالعادة ـ خارج اسوار بلاده في كندا عام 2018 كان مُفوَّها في الشعر ، فهو يأتي بالبديع الرائع المُهذب الجميل السلس السهل الممتنع. يتميز شعره بالأنضباط ، والاهتمام بوحدة الموضوع ، فهو لايغادرها ولا يشطط. ويهتم بشرف المعنى ، وجزالة اللفظ، ولذيذ الوزن ، حتى تجد نفسك مُقاداً للأسترسال في القراءة بإنسيابية لا إرادية .
هذه القصديدة التي ألقيت في مدينة الكاظمية منتصف الاربعينيات ، في رثاء الامام الحسين (رضي الله عنه وأرضاه) سنقتطف منها البيت الشعري الأول من افتتاحيتها الرائعة ، لنبحر في بعض الكشف والتحليل :
(هذي دماك)
ـــــــــــــــــــ
هذي دماكَ على فمي تتكـلمُ...
ماذا يقولُ الشعرُ إن نطقَ الدمُ ؟

هتفتْ وللأصفادِ في اليدِ رنّةٌ...
والسوط في ظهرِ الضعيفِ يُحكّمُ

هل في النفوسِ بقيةٌ من عزّةٍ...
تغلى وتغضبُ إنَّ أنفاً يُرغمُ

أتعرّتِ الأعرابُ عن عاداتِها...
وعفت كرامتَـها فلا تتظلمُ

أفترتضي ذلَّ الحياةِ وفي الورى...
لبني العروبةِ ألـفَ حقٍّ يُهضمُ

أم ترتجي عدلاً وهذا بيتُها...
بين الذئابِ مُوزَّعٌ ومقسَّم

الله أكبرُ لا حياةَ لأمّةٍ...
إن لم تُرق فيها المدامعُ والدمُ

قل للدماءِ وقد أريقتْ عنوةً...
لا طابَ بعدكِ مشـربٌ أو مطعمُ

خطّي لهذا الجيلِ أروعَ صفحةٍ...
تُوحي العزيمةَ للشبابِ وتُلهمُ

دوِّي بقلبِ المستكينَ وجلجلي...
صوتاً يُريعُ الظالمينَ ويُلجمُ

وتفجَّري حمماً على مستعبدٍ...
بمصيرِ شعبٍ بائسٍ يتحكّم

مَن كان يعهدُ أنَّ في الدمِ قوةً...
تبني الصروحَ الشامخاتِ وتهدمُ

حدّثْ أبا الشهداءِ أيّ رسالةٍ...
بدماكَ سطّرها إلينا اللهذمُ

كُتبتْ على لوحِ الخلودِ وسُيِّرتْ...
لحناً فمُ الدنيا بهِ يترنّمُ

حدِّث ويومُكَ للبريةِ شاهدٌ...
أفأنتَ عيدٌ للهدى أمْ مأتمُ

عيدٌ يئنُّ من الجراحِ ومأتمٌ...
فيهِ الضحايا والثواكلُ تبسمُ

عيدٌ تضرَّجَ بالدماءِ ومأتمٌ...
بعلاهُ زغردتِ الظبا والأسهمُ

مولايَ عفوكَ إن شططتَ فما عسى...
يشكو إليكَ الشاعرُ المُتألّمُ

عذري إليكَ أباعليٍّ إن يكنْ...
يُدمي جراحَكَ صوتيَ المتبرِّمُ

الشعبُ شعبُكَ ياحسينُ وإن يكنْ...
فيهِ الطغاةُ الظالمونَ تحكّموا

والقومُ قومُكَ ياحـسينُ وإن يكنْ...
عن نهجِ شرعتِكَ القويمةِ قد عموا

يا سائرينَ إلى الطفوفِ تطهَّروا...
وإذا وصلتمْ كربلاءَ فأحرِموا

في كلِّ ذرَّةِ تربةٍ يعلو فمٌ...
بالجهدِ يلعنُ ظالميكَ ويشتمُ

شطّ الفراتِ كأنَّ ماءكَ لمْ يثرْ...
يوماً ولم يغضبْ بنوكَ النوَّمُ

قسماً بمائِكَ وهوَ شهدٌ سائغٌ...
للمعتدينَ وفي فمي هوَ علقمُ

عذري إليكَ ولستُ أوّلَ عاجزٍ...
عن خوضِ بحرِكَ والقضا يتهجمُ

من ضامنٍ لي حينَ تعصفُ هوجَها...
إنَّ السفينةَ في بحارِكَ تسلمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما يروم بعض الشعراء افتتاح قصائدهم بالاستفهام ، فأنهم يأتون به في صدر البيت الشعري ليحضر جوابه في العجز .
لكن الشاعر (عبدالحسن زلزلة) جاء بالابداع الذي يتوافق وطبعه الشعري، حيث جعل جواب إستفهامه في الشطر الأول ثم الاستفهام في الشطر ألثاني .

• ما الذي دعا الشاعر الى هذه التقنية النظميَّة ؟

هذي دماكَ على فمي تتكلمُ...
ماذا يقولُ الشعرُ إن نطقَ الدمُ ؟

الجواب :

كان من المفروض أن يكون البيت الشعري هكذا :
ماذا يقولُ الشعرُ إن نطقَ الدمُ ؟
هذي دماكَ على فمي تتكلمُ

- ان هذا الأسلوب في تقديم الجواب على السؤال ، جعل التأويل ينفرج إلى أكثر من فضاء من ناحية أسلوب الخطاب والتلميح البلاغي.
المعروف عن الاستفهام ، إنه يستعلم عن شيء لم يكن معلوماً، ويجهله المتكلم.
فلوجاء الشاعر بالاستفهام أولاً ، لجعل دم الحسين بمنزلة المجهول، وهذا ما لايوافق منزلته ورتبته الكريمة الطاهرة ، ولذلك جاء به معرَّفا ابتداءً ، وهذا إبداع نظمي جميل يُحسَب للشاعر.

أراد الشاعر بهذا التقديم ، أن يخلق صورة يُفهم بها المتلقي بأن جوهر الخطاب والمقصدية هو (الدم) الطاهر.
فهو يُلَمّح الى ماوراء السطور ، حيث استعمل الدم رمزاً الى واقعة (الطَّف) وما يتضمنه من فلسفة ثورية إصلاحية وتربوية ، وليجعل الاستفهام تعظيماً للرمز .
المتأمل للشطر الأول ، يجد :
الخطاب المجازي جاء على لسان الدم . وكل الحروف منشأها الدم .
تقدم بلفظة (دماك) إكراماً ونبلاً لمنزلتها حيث جاءت مضافة الى ضمير المخاطَب الكاف (ك) والذي يشير الى الحسين . ولذلك سيستدل المتلقي على عائدية لفظة (الدم) في الشطر الثاني الى الحسين .
ثم إن إضافة الضمير كاف في (دماك) سيخلق استحضاراً للمخاطَب (الحسين) في القلب لدى المتلقي حتى وإن لم يكن المخاطَب حاضراً أو شاهدا .

ـ والى بيانات أخرى بعون الله تعالى .
ـ احترامي وتقديري .
(كريم القاسم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي