PNGHunt-com-2

رؤية الناقدغازي الموسوي لقصيدة الشاعر محمد الدمشقي .طائر من البلور

إعادة نشر
*
.............
طائرٌ
من البلّورِ..

-----------------------
النص:
........
تعالي نلتقي
……………….
قبلَ أن يغرزَ الليلُ شحوبَهُ
في خاصرةِ الضوء ،
و يسدلَ صمتَهُ الأجشَّ
على نوافذِ الهديل ،
لتنزفَ النهاراتُ و الأزهار ،
و تغرقَ المدينةُ في النحيبِ و اللعناتْ
تعالي ...  نلتقي
...................
قبل أن تجلدَ الأسئلةُ نفسَها
بسياطِ التأويل ،
و تذرفَ الحمائمُ صباحاتِها و مآذنَها
على أسطحِ الحريق ،
و تشطبَ سماءَ أجنحتِها
من دفاترِ التحليق ،
تعالي نرتّبُ موعداً مع الآه ،
نقايضُها بدمعِنا
فيتلقفُنا الوجد ،
نلملمُ شظايا القصيدةِ
بوردةِ عناقٍ
تقطفُنا من بين أشواكِ الوجع ،
ليستنشقنا العبير ،
يُلبسُنا رعشةَ نجمةٍ
توقدُ ذاكرةَ الدفء ،
و توقظُ لهفةً ...
نامتْ بلا قمر ! .
.....................
قبل أن يختنقَ العطرُ
في كلماتِنا
و يذبلَ الحنين ،
فتصلبُ الخيبةُ ندى أحداقِنا
على أوتادِ الأنين ،
لتعربدَ بنا أنخابُ غربةٍ مثقوبة ،
تتسربُ منها المرافئُ و الأيام ،
تعالي نشعلُ شموعَ أمنيةٍ
على غيمةِ الأرقِ الراكدةِ في حيرتِها
لتنهمرَ الصلواتُ و الأحلام،
نسكبُ أشواقَنا فوقَ كمَدِ التراب ،
فتتفتحُ الأغنيات ،
و تنتشي الدروب ،
نرى خطواتِنا الهاربةَ من الريح !
الباحثةَ عنا
بين أشباحِ الرحيلِ
و رقصاتِ الدخان !
نتْبعُ ظلَّنا الخائفَ
من قهقهاتِ العتمة ،
و حكايا الرمادِ الذي ...
أيقظَ لهبَه !!
..................
تعالي نترجمُ التنهيدةَ
إلى لغةٍ بيضاء ،
لا تتخطفُها طيورُ الجراح ،
و لا تهوي بها الآلامُ
في صمتٍ سحيق !
نقصُّ على الطريقِ شذانا
علّهُ يدركُنا
يرممُ أفقَه ،
و يسقينا ترانيمَ الوصول !
أنت المعنى الضائعُ مني
خلف الآه ...
و أنا الرجفةُ في نغمتِكِ
رجعُ نداءاتِكِ
بين وديانِ التلاشي
نظرتُكِ الشاردةُ
في هذيانِ البحر !!
تعالي ..
نفرغُ حقائبَنا منا
على ضفافِ قبلةٍ
ترتشفُ منا صباحاً ...
خبّأَ في غفوتِهِ الطويلةِ عصافيرَه
نحررُ الوقتَ من عقاربِهِ
ليتخلى عن حذرِهْ
و يجريَ خلفَنا
تعالي ...
نخمدِ البعدَ و النيرانَ ......
.....
........

و نلتقي .

الشاعر محمد الدمشقي  من ديوان حديث الياسمين 3

بعد استكمال قراءتي لهذا النص المحكم ،كان أول من حضر إلى ذهني شيخ المجاز البحتري الكبير..
لشعوري أنّ الدمشقيّ يحاول أن يؤسس لمشروع مجازي في طراز شعري مختلف لم يعتد مبتكروه ولم يقصدوا أصلًا أن يربطوا بجدل وثيق قديم الشعر بجديده عبر جواهر البلاغة من دون إخلال بالسياق أو هلهلة بالمساق..
وهي في الواقع تجربة ريادية يشاركه فيها ثلّة من شواعر وشعراء النثر على وجه التخصيص..
وهناك سببان كما نتصور  لوقوف هذا النص -موضوع الحوار-على دكة متقدمة شعريًّا :
الأول-نضج الاداة التعبيرية الى حدود الوعي الاستبطاني لمادة خطيرة الأهمية ونعني بها( فقه اللغة)..
هذا الوعي مهم للغاية لانه يمنح المبدع القدرة على تطويع المفردات والجمل والمقاصير والصور كلها وفق مشيئة الخلق بشكل تلقائي خال من التعسف اللغوي أو التقعيب أو التقعير الناشزين..
لهذا جاءت لغة النص محكمة البنى، قوية الاداء،تتحرك وفق إرادة شديدة الإصرار على ضخ الفن بروح الفعل الإبداعي وفي كل سطر من دون استثناء،وهذا يعني الإيمان بأن الصورة الشعرية هدف وغاية هي الأخرى وليست وسيلة وحسب،يحميها من التمنهج بالبرناسية ما اكتنزت به من المعاني الانسانية الكبيرة،مؤمنة بأن الشعر يتطلب الانتماء إلى الجمال بكل تفاصيله ،في نفس الوقت يتطلب أن يكون شديد الارتباط بالماحول المباشر وغير المباشر..
وهذا كله لا يأخذ مداه الأعمق والأرحب إلّا بعد أن تتحول اللغة والمعرفة الفنية إلى حقائق جوانية يحتشدُ بها صدر الشاعر..
الثاني- عبور شاعرنا بحكم الخبرة والإكتناز لمرحلة المغامرة اللغوية البعيدة عن الجدوى أو الضرورة الابداعية،
على رغم توافر الأغراض البلاغية والإنزياحات المتلاحقة ،وذلك لأن خزين الشاعر مزدحم  بالمعاني والأحاسيس الصادقة،فضلًا عن قدرةٍ تحويليةٍ واضحةِ المرونة والحيوية، ولم يتبق عليه سوى المباشرة بالتحويل التلقائي الناضج وهذا ما فعله بالضبط.
ولبيان المقصود نقول:  لقد لاحظنا كثيرًا ممن يزاولون الكتابة هذه الايام وهم لايعلمون ماذا سيقولون،أو ربما لايعرفون كيف يقومون بالتحويل عجزًا أو ضعفًا بالخبرة المطلوبة.. وكل ذلك في ناحية،ولكن هناك عدد مقلق حقًّا-وهنا تسكب العبرات-ليس عندهم مايقولون أصلًا،فينهرقون في صخبٍ لغوي معترك مع بعضه مغامرٍ بطيشٍ مُنَفِّرٍ بحثًا عن معنىً تائه علهم يصادفونه في طريق الدربكة اللغوية المنفلشة!!..
من هنا سيكون اختيارنا  لنص الدمشقي من أجل أن يكون من بين القُدى المائزة ،كإنموذج تطبيقيٍّ لكيفية كتابة الشعر الفني المغرم بالمجاز ،ولكن مع الإصرار في ذات الوقت على التعبير المعمق عن أوسع الشرائح الثقافية والاجتماعية وطنيًّا وإنسانيًّا..
هذا النص اذن.. يبين لكل متلقٍّ فطينٍ أن الإغراق بالمجاز بلا مضمونٍ مفيدٍ لاقيمة له ابدًا..وكيف أنهما معًا( المجاز والمعنى) سيرتبكان ويتهلهلان بلا بيانٍ مُنسبكٍ مُحتبكٍ واضحٍ وسلسٍ شفيفٍ وارفِ الظلال على كل طبقات الوعي الجمعي.
ولطالما أحببت عبارة "مالارميه"  الرائدة (شفيف كالماء وغامض كالماس)..تتعالق في مبناه ومعناه جواهر البلاغة من
*
بيان..
*
وبديع..
*
ومعانٍ..
كلها معًا في عناق مخمليٍّ خلّاقٍ ونموذجيّ..
ولابد هنا من الاشارة الجديرة إلى أن وصول هذا القصيد الحيوي إلى هذا المقام الرفيع ،لم يكن ليحظى بكل هذه الجاذبية لولا هذا الحبل الموسيقي الرابط بين أجراس المفردات منذ المدخل وحتى مسك الختام..
وكأني بالشاعر قد اختار لنفسه موقع ضابط الايقاع..او المايسترو..ليحكم سيطرته الموسيقية البالغة العذوبة بتناسل وتوالد واضح الحرفنة والسلاسة الممتنعة إلا على من بلغت به قدراته التحويلية بكل طواقمها مبالغ الرشاد ،وعيًا فنيًّا مبدعًا،ورؤية فكرية واسعة الافق،بعيدة النظر ،صافية المنطلقات ،جمعية الاهداف..
كما ولابد من الإشارة أيضا إلى أن هذا المنشأ التعبيري الباسق،يمثل لونًا بالغ الخصوصية ،ليقف بكل جدارة بجوار الوان تعبيرية أخرى على دكة الرقي المشبع ب( شعرية) طاليس،و( ادبية ) الإنتماء الى هذا المدخل الكبير على رحلة البحث المعرفية الواسعة..ولكل لون أو إسلوب مستوياته وطبقاته ورواده..ولايصحُّ إلّا الصحيح...

غازي احمد ابوطبيخ
         الموسوي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي