PNGHunt-com-2

كتب في تابوت من ورق :الناقد العراقي كريم القاسم

إلى القارئ الواعي، الذي يُعلي من شأن الكلمة الرصينة: نحن أمام تشريح لجريمة كبرى في حق الأدب، طباعة الكم على حساب قيمة النوعية. في ضوء تكدس المطبوعات الجديدة التي تفتقر للعمق، بينما تبقى الأعمال المرجعية القديمة هي مبعث الثقة، نسلط الضوء على (هَوَس التكرار الأعمى) وهي إصرار المؤلف على إصدار عَملهُ الثاني والثالث رغم أن الأول مات شهيداً على الرف بلا نقد ولا قراءة حقيقية. لقد تراجع دور المُحكّم النقدي الأمين، وحلَّ محله ترويج المصلحة والمجاملات العابرة، مما أدى إلى هبوط حاد في مستوى الذوق العام. هذا المقال يضع الأصبع على الجرح. متى نُدرك أن فرحة طباعة عمل محكوم عليه بالنسيان ليست سوى طقس وداع مُهين للجهد؟ لعلّ في هذه الصراحة القاسية ما يبعث روح المراجعة الصارمة في محافل النشر ومحارس الطباعة، ونرجو أن تُحرِّك هذه الصرخة الناقدة سكون الضمير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (كُتبٌ في تابوتٍ من ورق) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مرة أخرى وفي كل دورة، يعود معرض الكتاب ليئن جراحاته ذاتها، وكأنه مرآة مُكبّرة لعلّة ثقافية مزمنة. فلعلَّ هذا المقال هو صدى لصرخة الأدب الرصين، الذي يكاد يختنق تحت وطأة طغيان الكم على جوهر الكيف. عند تجولي بين أجنحة معرض الكتاب المقام الان، وجدتُ حالي كالحال في المعارض السابقة، يشعر المرء بخجل عارم أمام هذا المشهد الثقافي المؤلم، وكأننا نشهد جنازة صامتة للجديد. فما زال الجمهور يعبر عن ولائه الأبدي لأيقونات الماضي المضيئة، شعراء ورواة، وفي كل المجالات الأخرى. تلك الأسماء والمرجعيات الكبرى التي لم تزل تحتل خلايا الذاكرة النقدية للقارئ، بينما تستمر المطبوعات الحديثة في تكديس خيباتها بتربعها الصامت فوق الأرفف، محكومة بعزلة الكبرياء أو لعنة النسيان. هذا التجمّد لا يولّد سوى القلق. قلق من أن يصبح النشر مجرد تقليد شكلي بلا أثر. على جانب آخر من المعرض أرى ذات المشهد يتكرر بمرارة ساخرة، حيث يقف المؤلف منتشياً بوهم النجاح أثناء توقيع مؤلفه الجديد، تحيط به حفنة من الأصدقاء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وفي داخلك تضحك على هذه المسرحية الصغيرة التي تُقام بعيداً عن الجمهور الحقيقي. هذه الحفلات الوهمية التي يُقام فيها التوقيع لا للتوزيع، هي لتوثيق لحظة غَفلة ذاتية بأي ثمن. وبعيداً عن طاولات العَرض، نجد أروقة الندوات ما زالت تدور في ذات الفلك البالي، وبشخوص قد تجاوزهم الزمن فكرياً، كان من المفروض أن يعتلي المنصة سواهم. لكن الحديث والنقد هناك لا يبدو أنه حرّك عجلة الأدب الرصين قيد أنملة، بل يظل صوتاً مُدوَّراً في حلقات مفرغة، لا يضيف إلى المشهد سوى المزيد من الجمود والتكرار. إن الخطر الحقيقي ليس في تكرار المشهد، بل في تكرار قناعتنا بأنه أمر طبيعي لا يستحق الوقوف عنده. ففي تكرار الفشل في الوصول إلى القارئ ليس إلا دليلاً على أن نظام تداول الأدب نفسه قد أصيب بالعطب. لقد أصبح النشر أشبه بطقس إجباري يمارسه الكاتب لينال صك الاعتراف الذاتي، حتى لو كان ثمن هذا الاعتراف هو الانفصال التام عن الواقع النقدي والجمهوري. إن هذه الدائرة المفرغة من الإنتاج بلا استهلاك حقيقي هي التي تدعونا إلى التمرد على الصمت، وإلى تعميق النظر في غياب بوصلة النقد الحقيقية. وفي زحام الأكوام، تتجلى مفارقة ثقافية مؤلمة، كثيرون يطبعون، وقليلون يقرأون، والأكثرية تنجذب إلى تماثيل الثقة العتيقة – الكلاسيكيات التي صمدت في وجه عاصفة النسيان – بينما تُترك الأعمال الجديدة، حتى تلك الصادرة عن دور نشر مرموقة، لتموت واقفة. هذا المشهد يطرح سؤالاً يمزق حجاب المجاملة: • ما الذي يدفع الكاتب إلى طبع عمله، وقد أدرك بحدس مرير أن مصيره لن يتجاوز حدود تضاريس الأصدقاء المُجاملين، ليصبح مجرد تذكار فني يُسلم الروح على رف الإهمال؟ إن فرحة النشر، في هذا السياق، تتحول من إعلان ميلاد إلى طقس وداع. هي ليست فرحة الوصول إلى الجمهور، بل هي انتصار شخصي على الإحباط، وهو شعور الكاتب بأنه نجح في تحرير رهينة الفكر من سجن الرأس. هذا الإنجاز، وهو نبيل بلا شك، لكنه لا يملك قوة دفع للانتشار. وهنا تكمن المأساة الأكثر مرارة إن المصيبة ليست في المطبوع الأول الذي سقط سهواً في مستنقع النسيان، بل في الاستمرارية العبثية التي يصرّ عليها المؤلف. يُفترض بالكاتب أن يلتقط إشارات الصمت المُطبق حول مطبوعه الأول، ثم الثاني، ثم الثالث. يُفترض أن يكون الإهمال الذي حصل دافعاً للمراجعة النقدية العميقة، أو للاعتراف بقصور القامة الأدبية. لكننا نشهد ظاهرة الاندفاع العابث، و تكرار الطباعة دون تغيير في المنهج، ودون استشراف نقدي للذات، وكأن المؤلف يظن أن العمى في عين المتلقي، وليس في مرآة النص أو فقر الفكرة. إن هذه الاستمرارية ليست إصراراً محموداً، بل هي عبادة الوهم، إذ تتحول الكتابة إلى عادة إدمانية لا علاقة لها بالإبداع. فنجد الكاتب يطبع ليرضي غروره، لا ليُغني المكتبة، فهو يمارس نوعاً من التنفس الورقي الذي لا يضيف للأدب سوى المزيد من الأكوام التي تثقل كاهل القارئ وتشوه المشهد. يكمن الداء العضال في كل ما يجري هو تبخر السلطة النقدية. إن المحرّك الحقيقي الذي دفعنا لغوص عميق في مستنقع هَوَس التكرار الأعمى والتنديد بغياب المُحكّم النقدي الأمين لم يكن تنظيراً من برج عاجي، بل كان جرحاً فكرياً حياً ما زال أثره ينبض. بعد سرد هذه الحقائق، نصل إلى ذروة الألم الأدبي، إن غالبية تلك المطبوعات الجديدة ليست سوى أحجار زينة لموسم المعرض، تُطبع لغرض توثيق الحضور لا لغرض تأكيد الوجود. هي أعمال حاضرة وغائبة معاً. مومياوات ورقية مغلفة بانتشاء مؤقت، لكنها غائبة تماماً عن ذاكرة القارئ ومحراب النقد. وهنا يكمن الصدام الصاع، فبينما تقف هذه المطبوعات الجديدة كأصفار متراكمة لا يلتفت إليها أحد، يظل القديم الأصيل هو خريطة الكنز الذي لا تزال تبحث عنه الذائقة الحقيقية. إن القارئ اليوم لا يفتش عن عناوين الموسم في الأرفف الأمامية، بل ينقب في أقبية الذاكرة بحثاً عن الأسماء الكبرى التي صمدت أمام فناء الزمان. ولهذا، نُطلق فتوى أخيرة صادمة: إن التابوت الورقي الذي يُغلف إنجازاً نقياً، أهون على الكاتب الرصين من تحويل عمله إلى مخطوطة ملوثة بأهداف لا يصافحها الوجدان. ويبقى الثمن الحقيقي لضمير الكلمة هو دفع فاتورة الرفض الباهظة الرفض القاطع لكل إغراء يبتذل قداسة المداد. وهنا، في هذا المُقام الأخلاقي الشامخ، يُولد الانتصار الصاعق الذي يثبت أن الرصانة ليست عُزلة، بل قنديل يُضاء به طريق القلّة الواعية في زمن طغيان العمى. • والى بيانات قادمة بعون الله تعالى. • احترامي وتقديري. (كريم القاسم / بغداد) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي