PNGHunt-com-2

ق.ق.ج /الرمز والتقطيع في ق.ق.ج : الناقد العراقي كريم القاسم

أيها القارئ الكريم: نصل اليوم إلى محطة مهمة في سلسلتنا النقدية حول القصة القصيرة جداً (ق.ق.ج). بعد أن استوعبنا قاعدة الاستئصال الجراحي للمفردات الفضفاضة، وفهمنا أن القاص يتحول إلى صائغ للكلمات، نرفع الستار الآن عن سر العبقرية الدلالية في هذا الفن، عبر سبر غور الأدوات التي تمنح النص قوته الساحرة، وأبرزها: البناء الرمزي الذي يحوّل الجماد إلى مرآة مصير، وتقنية التقطيع التي تجعل الفراغ بين الجمل أشد بلاغة من الكلام. لقد كنا ننوي اختتام هذه السلسلة عند هذا الجزء، ولكن نظراً لاتساع المحاور النقدية لهذا الفن وضرورة استيفاء جميع زواياه الجمالية والمنهجية، وبهدف إعمام الفائدة وتعميق الوعي النقدي بهذه الجزئيات، فقد قررنا تمديد هذه الحلقات لتتجاوز عددها المعلن. إذ نطمح بذلك إلى تقديم ملف نقدي متكامل، يُحيط إحاطة تامة بأسرار هذا الفن العسير، ويضع خارطة منهجية لمعايير الجودة والتميز فيه. لذا، ندعوكم لمواصلة هذه الرحلة النقدية معنا، لتدركوا أن الـ (ق.ق.ج) ليست مجرد إيجاز، بل هي قنّاصة دلالية تصيب العمق بأقل طلقة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (القصة القصيرة جداً، الرمز والتقطيع) (الجزء الثالث) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن القصة القصيرة جداً ليست عملاً تفسيرياً، بل هي ومضة تكثيف لا تقبل الشرح. هي أشبه ببلّورة مصقولة كلما زادت صرامة نحتها، ازداد نقاؤها وقدرتها على عكس الضوء ليتحول إلى دلالة عميقة. إن (الرمز والتقطيع) هما إبرة البوصلة التي تشير إلى أعماق الواقع دون تضييع الوقت في رسم الخرائط، وهما الأداتان اللتان تضمنان أن يصبح النص قنّاصة دلالية تصيب العمق بأقل طلقة. بعد إتمام المراحل المتعلقة بالتكثيف الصارم وأولوية المفردة، ننتقل الآن إلى مناقشة تقنيات مهمة في كتابة القصة القصيرة تحقق هذا التكثيف المطلوب وتعميق الأثر: 1- البناء الرمزي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (تحويل المادي إلى دلالة عميقة) إن البناء الرمزي هو أساس فن التكثيف. فلا يكتفي القاص بوصف الشيء كوظيفة مادية، بل يعمد إلى تشبيعه بدلالة أعمق ليصبح رمزاً مجازياً كاملاً. هذه المهارة تمكّن القاص من تجاوز الوصف السطحي للأشياء وتحميلها أبعاداً دلالية ومجازية أعمق، بحيث يصبح (الرمز) هو الأداة التي تنقل المشاعر والتجارب دون الحاجة إلى التصريح بها. ويتم ذلك تحديداً عبر استخدام الرموز ذات الدلالة العالمية وربطها بخبرة البطل الشخصية. ولنستعرض امثلة دالة على ذلك : • أولاً / ساعة الحائط المعطلة (رمز الزمن المتوقف): فبدلاً من أن يصف القاص الحالة النفسية للبطل بأسلوب مباشر كقوله: (شعر البطل بأن الزمن قد توقف وأن حياته جامدة ومحبطة)، عليه أن يلجأ إلى الرمزية المكثفة فيقول: (ساعة الحائط المعطلة كانت تُصرّ على البقاء عند الثالثة فجراً، وكأن الحياة بأكملها اختارت التوقف عند تلك اللحظة.) التحليل: العبارة الرمزية لا تصف مجرد جهاز أو حالة عادية، بل ترمز إلى جمود المصير وتوقف الزمن في حياة البطل. إن التركيز على توقف الساعة عند (الثالثة فجراً) يضيف طبقة دلالية أخرى، إذ يربط التوقف بلحظة الانكسار أو العزلة القصوى. يلغي هذا الرمز الحاجة إلى فقرات طويلة لشرح شعوره بالإحباط ويُكثّف القصة في لقطة مرئية واحدة. • ثانياً / المرآة وآثار الأصابع (رمز الهوية المتشوهة): بدلاً من الوصف المباشر الذي يقول: (نظر البطل إلى نفسه وشعر بالندم على أخطائه السابقة التي شوهت صورته أمام الناس) تكون العبارة الرمزية كالآتي: (لم يجد وجهه، وجد فقط آثار الأصابع الملطخة التي تركها عليه الزمن.) التحليل: هنا، المرآة لم تعد أداة لرؤية الذات الجسدية، بل تحولت إلى سجل للزمن والألم الداخلي. الرمزية لا تكمن في غياب الوجه، بل في وجود (آثار الأصابع الملطخة) التي ترمز إلى الخيبات أو الأخطاء التي شوهت جوهره وهويته. هذه الجملة الرمزية تختزل قصة كاملة عن فقدان الذات أو الندم العميق في إيجاز قاتل. • ثالثاً / الكوب المشقوق (رمز الهشاشة الداخلية): بدلاً ان يصف القاص حالة (توتر) لبطل قصته بهذا الأسلوب السطحي : (مسكَ الكوب بيديه المرتجفتين، متخوفاً من انكساره لحظة امتلائه بالشاي) عليه أن يحمّل العبارات بالرمزية الدالة، فيستخدم الرمز للتعبير عن الهشاشة الداخلية والتوتر النفسي، فيقول: (مسكَ الكوب بيدين مرتجفتين، لم يكن خائفاً من انسكاب الشاي، بل من صوت الشق الصغير الذي يهدد الكوب بالإنهيار.) التحليل: هنا، الكوب يرمز إلى هشاشة النفس البشرية أو العلاقات، وعلى القاص الا يكتفي بـ (يدين مرتجفتين) ليعكس حالة التوتر، بل يغير البوصلة ويأتي بكلمات اخرى كـ (الشق) ليرمز إلى ذلك التوتر الداخلي الذي يهدد بالانهيار في أي لحظة دون مقدمات. • رابعاً / الأحذية الممزقة (رمز المصاعب غير المتوقعة): عندما يريد القاص ان يصف حالة الفقر بسبب ما يحيط ببطل قصته، فيقول مثلاً: (خلع حذاءه، الذي كان ممزقاً، فالحياة لم تكن مقبلة عليه.) العبارة أعلاه تمثل وصفاً تقريرياً، لايشكل بؤرة دهشة لدى المتلقي، لذلك سنجعلها تحمل رمزية دالة جاذبة مثيرة : (خلع حذائه، لم يكن ممزقاً من الأسفل، بل من الجوانب، كأن الحياة أكلته من الأطراف لا من الأرض التي سار عليها) التحليل: هذا التركيز على تمزّق الحذاء من الجوانب يوحي بأن المصاعب لم تكن في الطريق، بل كانت في العلاقات المحيطة به، مما يمنح الجملة بعداً اجتماعياً عميقاً. • خامساً / الباب وغياب المقبض (رمز الفرصة الضائعة): العبارة التالية تمثل انشاءً وتوليفاً سطحياً فقيراً الى الرمزية: (عندما وصل الى الباب، مدّ يده، فلم يجد المقبض، لقد كان مفقوداً، عندها ادرك انه لم يستطع اللحاق بالآخرين، فلقد غادروا قبله) الآن بإمكان القاص الخبير الذكي أن يجعل العبارة تشع بالرمزية، فيقول مثلاً: (عندما لم يجد مقبضاً للباب، أدرك أن العبور إلى تلك اللحظة كان متاحاً من طرف واحد فقط، طرف الذين عبروا وغادروا.) التحليل: القاص هنا نجح في ايقاض شعور المتلقي وفاجأه مباشرة بخبر (مقبض الباب) ليجعل منه رمزاً تحوم حوله الحالة. إن غياب مقبض الباب في العبارة يرمز إلى (فرصة مغلقة) لا يمكن استعادتها، ويُلغي الحاجة لشرح مشاعر الندم. هكذا، يثبت البناء الرمزي في التأليف أنه الروح التي تمنح القصة القصيرة جداً ثقلها، فكلما كانت المفردة أكثر رمزية، كانت القصة أكثر إيحاءً وأقل حاجة إلى الشرح المباشر. 2- تقنية التقطيع: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (هندسة اللقطة المشهدية الحادة) تُعد تقنية التقطيع إحدى الدعائم الأساسية للتكثيف، حيث تتخلى عن السرد بتسلسل زمني مستمر لصالح القفز بين لقطات مشهدية حادة ومتباعدة، تاركة للقارئ مهمة ملء الفراغات لزيادة العمق. إن القاص هنا يتحول إلى مُحرِّر سينمائي بارع، لا يقدّم الفيلم كاملاً، بل يقدم فقط المشاهد الأكثر قوة ودرامية، ليكون ما بين إن المشاهد المحذوفة (الفراغ) تكون أشد وطأة وبلاغة من الكلام المباشر . التقنية المعتمدة هنا، هي استخدام الانتقال السريع والمفاجئ بين مشهد وآخر، مع المحافظة على خيط دلالي خفي. ـ ولنستعرض الآن بعض الأمثلة الإثرائية الدالة: المثال الأول/ القفزة الزمنية (تكرار المصير) لدينا هذا المقطع القصصي: (كان يقف أمام بوابة حديدية قديمة. سحب مفتاحاً قديماً من جيبه، وحاول إدخاله في القفل عدة مرات دون جدوى. بعد سنوات، رأوه يقف أمام بوابة جديدة في مدينة أخرى، ويده لا تزال ترتجف بالطريقة ذاتها.) هنا انتقل المؤلف بالمشهد انتقالة سريعة، وأحدث قطعاً ذكياً، ليغير المشهد بلقطتين، كل واحدة تحمل دلالة خاصة، وكالآتي: ـ لنتأمل مثال القفزة الزمنية التي توضح كيف يفرض النص على القارئ اختصار عقود من الحياة: • اللقطة الأولى: (كان يقف أمام بوابة حديدية قديمة. سحب مفتاحاً قديماً من جيبه، وحاول إدخاله في القفل عدة مرات دون جدوى.) هذه اللقطة تمثل (لحظة فشل ويأس آني). • اللقطة الثانية: (بعد سنوات، رأوه يقف أمام بوابة جديدة في مدينة أخرى، ويده لا تزال ترتجف بالطريقة ذاتها.) هذه اللقطة تمثل (تكرار حالة الارتجاف). التحليل: التقطيع هنا يُلغي الحاجة لشرح السنوات التي مضت. هكذا تأليف وهكذا تقطيع يجبر القارئ على ربط الفشل القديم بالنتيجة المصيرية الحالية، وهي أن العقدة لم تكن في البوابة بل في يد البطل. وهكذا، يتحول الصراع من حادثة عابرة إلى حقيقة ثابتة، وهو ما يمنح القصة عمقها الأقصى. المثال الثاني/ التقطيع الموضعي الحاد (مفارقة التناقض) تُستخدم هذه التقنية أيضاً في التقطيع بين مشهدين متناقضين يحدثان في زمن متقارب، لخلق صدمة دلالية. هذا مثال إثرائي يوضح تقنية التقطيع والانتقال المفاجيء بالمشهدية الدالة: (عند المائدة، أعلن الأب عن ثروته الجديدة، فتلألأت الكؤوس على المائدة من شدة الفرح. في الزاوية المعتمة، كان الابن يلفُّ يده المبتورة بقطعة قماش بالية، دون أن يرفع رأسه) • المشهد الأول: (عند المائدة، أعلن الأب عن ثروته الجديدة، فتلألأت الكؤوس على المائدة من شدة الفرح.) هذه اللقطة تمثل (لقطة فرح وغنى). • المشهد الثاني: (في الزاوية المعتمة، كان الابن يلفُّ يده المبتورة بقطعة قماش بالية، دون أن يرفع رأسه.) هذه القطة تمثل (لقطة ألم وتضحية) التحليل: هنا، القارئ يُصدَم بفعل التقطيع المفاجئ بين اللقطة الأولى (الاحتفال) واللقطة الثانية (البتر). هذا التناقض الصارخ بين (ثراء الأب وآلام الإبن) الذي من الواضح أنه دفع الثمن، يُنشئ مفارقة اجتماعية مكثفة. إنه يُجبر القارئ على ربط الفراغ بين المشهدين، ليصل إلى تأويل مفاده أن الثروة بُنيتْ على تضحية أو خيبة. بهذه الطريقة، يتم نقل الصراع من لحظة عابرة إلى حقيقة مستمرة، وهو جوهر نجاح الـ (ق.ق.ج) في استغلال عنصر الزمن والفراغ. لذلك أقول: ـ إن الـ (ق.ق.ج) هي فن الاقتصاد الذي يتجاوز الشرح والبساطة والتقرير. فالنص ليس مسودة كاملة، بل هو خريطة كنز مرسومة بعناية، حيث يُفعِّل القاص آليتَي (الرمز والتقطيع) لتتحول المفردات إلى لغمٍ لغوي ينفجر بالدلالة في ذهن المتلقي. ـ إن وظيفة الكاتب الرصين تنتهي عند وضع المفاتيح (الرموز والمشاهد المقتطعة). فعلى الكاتب أن يتوقف قصداً عن الشرح والتفسير، ويكتفي بتقديم العناصر الضرورية والمكثفة (كالرموز واللقطات الحادة). هذا الالتزام بـ (بلاغة الضرورة) هو الذي يضمن قوة النص ويُلغي ترف الإسهاب. ـ أما وظيفة القارئ فتبدأ عند البناء. فعلى القارئ أن يستخدم خبرته ووعيه لربط هذه المفاتيح والعناصر المقتطعة ببعضها البعض. هذا البناء هو عملية تأويلية نشطة تحدث في الفراغات، وتجعل القارئ شريكاً حقيقياً في خلق المعنى النهائي. لأن القصة الجيدة ليست هي التي تقول كل شيء، بل هي التي تُخفي معظم الحقيقة لتجعل الفراغ أشد بلاغة من الحروف. • والى بيانات قادمة بعون الله تعالى. • احترامي وتقديري. (كريم القاسم / بغداد) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي