فن القصةقق.ج ج2 : الناقدالعراقي كريم القاسم
أيها القاريء الكريم:
نستكمل اليوم رحلتنا في استكشاف أسرار فن القصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) ضمن سلسلتنا النقدية.
بعد أن تناولنا في الجزء الأول البنية الوظيفية للقصة واختيار العنوان، ننتقل في هذا الجزء الى
صميم عملية الإبداع المنهجية الصارمة في اختبار المفردة والتخلص من الحشو.
سنسلط الضوء على الأبعاد الثلاثة لخارطة طريق القاص الماهر، بدءً من قاعدة (العمليات الجراحية) التي تقتضي إزالة القشرة اللغوية لتحرير الجوهرة الدرامية، مروراً بأولوية المفردة التي تولد الصراع، ووصولاً إلى قوة القفلة الماتعة.
ندعوك، أيها الكاتب والمهتم، للتعمق في هذه القواعد التي تثبت أن القصة القصيرة جداً ليست مجرد تقليص، بل هي فن النحت اللغوي الذي يطلب الإيجاز والضرورة.
إن القصة القصيرة، بخلاف الرواية، فهي فن مرهون بالاقتصاد اللغوي الصارم، فكل كلمة فيها هي استثمار يجب أن يدرّ عائداً درامياً أو دلالياً.
القصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) ليست مجرد تقليص للحجم، بل هي ميلادٌ جديد للسرد، حيث يتحول القاص من كاتب عادي إلى صائغ ماهر للكلمات، يُلزم نفسه بتحقيق أقصى دلالة بأدنى تعبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بلاغة الاستئصال في القصة القصيرة جداً)
الجزء الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن بلاغة الاستصال هي فن الاقتصاد البلاغي الذي يرفض الإسراف، ويجعل من المفردة الواحدة بؤرة ضوء تكشف عوالم كاملة.
ولهذا، يجب على القاص أن يتبنى خارطة طريق نقدية ثلاثية الأبعاد صارمة، هدفها تحويل النص من مجرد (ضجيج سردي) بوصفٍ ضعيف ومطول، إلى كيان مكثف يحمل دلالته في أقل قدر من المفردات، ليصبح (بصمة أصبع) حادة ومميزة.
وعلى المؤلف أن يهتم بقواعد ثلاث:
القاعدة الأولى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(قاعدة العمليات الجراحية)
والتي ندعوها بالتكثيف الصارم.
تعتبر المرحلة الأولى في هذه الخارطة بمثابة تطهير جراحي للنص، حيث تُفعَّل قاعدة العمليات الجراحية (التكثيف الصارم) والتي تقتضي نزع كل ما هو فضفاض أو شرحي تقريري.
هذه القاعدة هي الخطوة الأولى والأساسية، إذ تتطلب من القاص أن يتحول إلى جراح ماهر يجري عملية استئصال وحذف لكل مفردة أو جملة يمكن
الاستغناء عنها دون أن ينهار المعنى الجوهري للقصة.
التكثيف الصارم يعني اختزال الشرح الطويل والمباشر للمشاعر، واستبداله بالفعل أو الرمز الحاسم، فالهدف ليس الحذف العشوائي، بل الاستبدال الذكي للكلمات الكثيرة التي تهتم بـ (الوصف) بكلمة واحدة بحيث تحمل نفس الشحنة المعنوية والدرامية، ليتحول النص من ضجيج سردي إلى نص يحمل (بصمة أصبع) الكاتب، مكثفة وضرورية.
والآن نستعرض أمثلة تطبيقية على التكثيف الصارم:
• اختزال الشعور في فعل حاسم:
العبارة التالية تتصف بالسرد الممل والشرح المطول والمباشر :
( كانت تنتظر بفارغ الصبر، لكنها كانت متوترة جداً وخائفة من النتيجة).
هكذا انشاء ونثر لايمكن ان يتوافق مع الـ (ق . ق. ج) إذا لابد من تكثيفها واستئصال ما لا ينفع منها لنجعلها بصمة اصبع يعتمدها المؤلف دائماً، فتصبح كالتالي:
(كانت تنتظر وهي تعد خطواتها)
التحليل:
أصبحت الان عبارة حاسمة ومُقتضَبة تختزل توتر الانتظار الطويل والخوف من المصير في إيقاع قياس الخطوات، مما يجسد القلق الداخلي بأسلوب
رمزي أكثر اقتصاداً من الشرح المباشر.
• تحويل الوصف المادي إلى رمز درامي:
العبارة التالية تتميز بالوصف المادي المحايد ، والذي ندعوه (ضجيج سردي) كون المؤلف لم يأت بإبتكار:
(المرآة القديمة الموضوعة على الحائط.)
الآن بإمكان المؤلف الذكي أن يستأصل الفائض ويكثف بحزم وصرامة ، ليحصل على بصمة اصبع، فتصبح العبارة كالتالي:
(المرآة المُتشقّقة.)
التحليل:
نعم فقط كلمتان كافيتان لتصبح العبارة اكثر سبكاً وأعمق بلاغة .
إن كلمة (المُتشقّقة) ليست مجرد وصف لزجاج المرآة، بل هي تأريخ بصري للزمن والآلام أو الخيبات، وتحمل خلفية درامية كاملة تخدم القصة مباشرة، بينما كلمة (قديمة) تحمل دلالة الزمن الماضي فقط.
• اختزال الحزن والوحدة في فعل رمزي:
العبارة التالية تحمل دلالة التقرير العاطفي المباشر:
(كانت الأم حزينة جداً وتشعر بالوحدة بعد رحيل ابنها.)
لنجعلها أكثر عمقاً وكثافة وقوة:
(الأمُّ أغلقتْ النافذة التي لم تغلقها منذ عشرين عاماً .)
هكذا استئصال وتكثيف إختزل الحزن والوحدة في فعل الإغلاق (الأم أغلقت) والذي يرمز إلى إغلاق صفحة من الحياة، وهو مشهد أكثر تأثيراً وعمقاً.
القاعدة الثانية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتي ندعوها بأولوية المفردة الدرامية (من الوصف إلى الصراع).
فبعد إتمام عملية التكثيف الصارم، ننتقل إلى القاعدة الثانية التي تركّز على الجودة النوعية للكلمات، وهي مرحلة أولوية المفردة الدرامية، إذ يجب أن تحمل كل كلمة ثقلاً درامياً، وتخدم الصراع بدلاً من الاكتفاء بالوصف الجامد.
على المؤلف الحاذق الذكي أن لا يكتفي بالتخلص من الحشو، بل يجب الانتقاء الواعي للمفردة.
يجب عليه أن يختار دائماً الكلمة التي تحمل الجهد، الحركة، أو النتيجة الصادمة (المفردة الدرامية) بدلاً من تلك التي تحمل مجرد تعريف جامد أي (المفردة التقريرية).
إن الكلمة الضرورية هي تلك التي تضيء الحَدَث، وليس مجرد معلومة.
والآن نستعرض أمثلة تحمل دلالة الاختيار الدرامي:
• توليد الصراع من الموصوف (وصف الجماد):
العبارة التالية تتصف بالوصف التقريري:
(الكرسي الخشبي القديم.)
هنا علينا ان نُشحِن المفردة بصراعٍ خفيٍ داخلي، لنجعلها عبارة درامية، فتصبح :
(الكرسي الخشبي المكسور.)
التحليل:
إن كلمة (المكسور) بدلاً من كلمة (القديم) تحمل نواة قصصية فورية، وتولّد سؤالاً مباشراً (ماذا حدث؟) و(ما سبب كسره) مما يولد الصراع الذاتي لدى المتلقي، بعكس الوصف السابق الذي يعتبر مادياً محايداً.
• استخدام الكثافة البصرية لتجسيد الألم:
العبارة التالية تحمل دلالة التعبير المباشر والمجرد:
(الطفل الذي كان يشعر بالجوع والعطش الشديد.)
لنحولها الى عبارة درامية:
(الطفلُ يلعقُ رصيفاً مُبتلاً. )
التحليل:
إن الفعل (يلعق) هو وصف مجازي، يعكس مشهداً بصرياً مكثفاً ومؤلماً يجسد الجوع والعطش واليأس والحالة الاجتماعية بكلمة واحدة، وهذا الوصف أشد ألماً وإيحاءً بكثير من التعبير المجرد ( يشعر بالجوع والعطش الشديد)
• تحقيق التشخيص الدرامي لوصف الأجواء:
العبارة التالية تحمل دلالة الوصف التقليدي:
(الشارع الذي كان مظلماً جداً.)
لنحولها الى عبارة درامية:
(الشارع الذي اختنق بالخوف.)
التحليل:
إن استخدام كلمة (اختنق) يمنح الشارع صفة الكائن الحي الذي يعاني من الضيق الشديد، مما يزيد من حساسية المشهد وتوتره، ويجعل القارئ يشعر
بالخوف المادي والساحق بعبارة درامية مكثفة ومباشرة.
القاعدة الثالثة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاعدة النغمة الصادمة (القفلة المدوية)
أما البعد الثالث والأخير في هذه الخارطة، فهو تفعيل قاعدة النغمة الصادمة (القفلة المدوية) حيث يُستثمر التكثيف والاختيار الدرامي في بناء نهاية
مفاجئة ومؤثرة تضمن رسوخ القصة القصيرة جداً.
يجب أن تكون القفلة في القصة القصيرة نقطة ضغط مكثفة، لا مجرد إغلاق عادي.
فهي اللحظة التي تضيء النص كاملاً بأثر رجعي، وتعيد تعريف ما مرّ به القارئ.
هذا التكنيك يتطلب أن تكون الجملة الختامية رمزية وقادرة على فتح المعنى على تأويلات أعمق.
• مثال على القفلة الصادمة:
مثلاً، في قصة تدور حول البحث عن (الأمل) يمكن أن تكون القفلة كالتالي:
(لم يكن خائفاً من السقوط، بل من اكتشاف أن الأرض كانت دائماً فوق رأسه)
هذه النهاية تنسف فكرة السعي وتؤكد أن البطل كان محاصراً من البداية، مما يمنح النص نغمة مصيرية صادمة ومروعة.
لذا أوصي مَن يبحث عن الرصانة التأليفية بما يلي:
ـ الالتزام بهذه المنهجية، المتمثلة في التكثيف الجراحي واختيار المفردة الدرامية، وهذا ليس تضييقاً على حرية الكاتب، بل هو الارتقاء بها إلى مصاف الفن الرفيع.
ـ إن جوهر نجاح القاص في (ق.ق.ج) يكمن في تحويل النص من مجرد سرد إلى (لغم لغوي) حيث تكون كل كلمة، وخاصة الكلمة الختامية، هي الفتيل الذي يُفجّر المفارقة، ويترك القارئ أمام خلاصة مكثفة ومباغتة.
ـ إن (ق.ق.ج) الناجحة هي التي لا يمكن إزالة كلمة واحدة منها دون أن تتأثر بتركيبتها.
إنها بمثابة إبرة البوصلة التي تشير إلى أعماق الواقع دون تضييع الوقت في رسم الخرائط.
إن هذا الفن النثري لا يتطلب الإسهاب، بل يتطلب بلاغة الضرورة التي لا يستطيع تحقيقها إلا الكاتب الرصين والماهر، ليثبت أن قوة القصة تكمن في ما تقوله بعمق، وليس في كمّ ما تقوله بطول واستطراد.
• والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.
• احترامي وتقديري.
(كريم القاسم / بغداد)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق