تحفة النفي والإيجاب (تحليل الناقد كريم القاسم لبيت الفرزدق الشعري الخالد
أيها القارئ الذكي، أيها المتلقي للجمال الجاسر:
توقّف!
فليس كل الشعر يُقرأ، فبعضه يُتلى كآية، وبعضه يُرمى عليك كصاعقة.
إننا لا نقف اليوم أمام بيت من قصيدة، بل أمام حالة لغوية طارئة حَكمَ فيها الكرم المطلق على حرف النفي الوحيد في اللغة العربية بالإعدام.
تخيّلْ شاعراً يجرؤ على أن يزعم أن لسان ممدوحه قد صُودِرَت منه كلمة (لا) ولم تُترك له حرية النطق بها إلا عند أعتاب التوحيد والتشهد.
هذا ليس مدحاً تقليدياً، بل هو هندسة للمعنى على إيقاع الصدمة والقداسة.
هنا، يرغمنا الفرزدق على التسليم بعبقرية إيقاف اللغة عند حَدٍّ لا يتجاوزه إلا الإيمان، ثم يرقص بنا مجازياً إلى الشطر الثاني ليقول:
(لولا قدسية لا إله إلا الله، لكانت كل (لا) لهذا الرجل تحوّل، بحكم الجلال، إلى (نعم) عظيمة.
فاستعدْ لدخول عالم حيث الكلمة تنقلب على دلالتها، وحيث الحرف الواحد يكشف عن جوهر كامل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تحفة النفي والإيجاب)
(تحليل نقدي لبيت الفرزدق الخالد)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ما قال لا قطُ إِلَّا في تَشهُّدِهِ ... لَولا التشهُّدُ كانتْ لاءُهُ نعمُ)
إن هذا البيت الشعري البليغ هو جزء من قصيدة ميمية عصماء أطلقها الشاعر الأموي الفحل الفرزدق، والتي لم تكن نتاج تحضير أو تروٍ، بل كانت إنشاداً مُرتجلاً صادقاً.
وقد قيلت هذه القصيدة الجريئة في مدح الإمام علي بن الحسين زين العابدين (رضي الله عنه) في موقف تاريخي شديد الحساسية والتوتر، حيث وقف الشاعر شاهداً ومادحاً للإمام أمام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، مُعلناً مكانة زين العابدين بلسان فصيح وشجاع.
يُعدّ بيت الفرزدق الشهير هذا أكثر من مجرد قصيدة، إنه سِفر بلاغي ممهور بالتعظيم، يرفع فعل الكرم من منزلة الفضيلة إلى منزلة (اللزوم المطلق) والجوهر المتأصل.
يعتبر هذا البيت الشعري قمّة في الإبداع البلاغي والفكري في (باب المدح) وهو من الأبيات التي تُدرَّس لقوتها وتفردها.
لقد تناول الكثير من النقاد العرب هذا البيت الشعري قديماً وحديثا وعلى مدى العصور للمفارقة التي خلقها الفرزدق، بين دلالة الحرف في الحياة والدين، وكيف رفع المدح إلى مرتبة روحانية.
يكمن الإعجاز الإبداعي في هذا النظم بتصوير لسان الممدوح (زين العالبدين) كأنه مفتاح مُعطَّل للنفي، مُعلناً صراعاً لغوياً مُحكماً حُسِمَ على أبواب الممدوح.
وإليكَ تقنيات النظم والابداع الشعري في هذا البيت الشعري:
أولاً:
الإبداع في الفكرة والتعليل الذاتي للكرم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يعمد الفرزدق إلى الأساليب المألوفة في وصف الكرم ، فلم يقل (هو معطاء أو بذل ماله) بل وصل إليه عن طريق (نفي) نقيضه (البخل) نفياً مطلقاً وحصرياً.
• الفكرة المبتكرة:
أن الممدوح كريم لدرجة أن (لغته) نفسها عاجزة عن التعبير عن الرفض.
فالكرم عنده ليس مجرد صفة سلوكية، بل هو (قوة جاذبية) أخلاقية مُهيمِنة، وطاقة طاغية شلَّتْ حركة النفي على لسانه.
• جوهر الفكرة:
الممدوح ليس فقط يعطي، بل هو مفطور على العطاء، وكأنه لا يملك القدرة اللغوية أو الإرادة النفسية لقول (لا) في أي سياق دنيوي.
فالكرم هنا صار حالة فطرية قاهرة تتغلب على وظيفة الكلمات.
ثانياً:
عبقرية التقنية والمفارقة الروحانية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله:
(ما قال لا قطُّ)
وصل الفرزدق إلى ذروة المبالغة التي تكاد تستحيل عقلاً وشرعاً.
وهنا تبرز عبقرية الإنقاذ والتقنية البلاغية في النَظْم، التي لجأ إليها الشاعر ليتخلص من الضعف المعنوي للمبالغة المستحيلة، عبر إحداث مفارقة ذكية بين سياقين لكلمة (لا) وكالآتي:
1- (لا) الدنيوية:
هذه الـ (لا) الدنيوية تلازم عادة (الرفض والبخل) وهي كلمة قد حكمَ عليها الفرزدق بـ (الإعدام الوظيفي) في قاموس الممدوح الدنيوي.
2- (لا) الدينية:
وهي تعمل بدلالة التوحيد في قوله:
(إِلَّا في تشهُّدهِ)
وهي بمثابة (صك براءة) للسان الممدوح، حيث أثبت الشاعر أن النفي على لسانه غير مُلغى تماماً، بل هو مُقيَّد بأقدس مَقصَد.
هنا استطاع الشاعر أن يأتي بالبداع المُبهِر، حيث حوّلَ (لا) في هذا الربط من أداة رفض دنيوية إلى قنطرة للإثبات الإلهي، فربط الشاعر كرم الممدوح بالإخلاص الديني، وكأنه يقول: (هذا الرجل لا يستخدم النفي إلا في سبيل الله، وما سواه فهو إيجاب وقبول وعطاء.)
وبذلك جعل الممدوح قمة إنسانية لا يُعلَى عليها إلا بالعقيدة.
ثالثاً:
الإبداع في التركيب والبرهان الهندسي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتمد البيت الشعري على أدوات بلاغية محكمة جعلته تاجاً للإيجاز الباذخ:
• القصر والحصر (ما... إلا):
معنى ودور (ما) في البيت الشعري هو النفي المطلق للفعل الذي يليها.
الدور النحوي والبلاغي:
نحوياً: تعمل على نفي الفعل الماضي (قالَ).
بلاغياً: هي جزء أساسي من أسلوب القصر أو الحصر (مع أداة الاستثناء إِلَّا).
هذا الأسلوب في النظم يضفي على المدح قوة (إطلاق وتوكيد)
حيث حسم الفرزدق المسألة بعبارة قاطعة:
(ان زين العابدين لا يقول (لا) أبداً (إلا) في هذه الحالة المحددة وهي التشهد) مما يقطع الشك في صفة الكرم لديه.
• بناء الشرط الافتراضي (لولا):
ذروة الإبداع الشعري تكمن في الشطر الثاني:
(لولا التشهُّدُ كانت لاءُهُ نعمُ)
إن لغة العرب تضع (لولا) في موقع فريد لا يمكن تعويضه بشكل كامل بأي حرف آخر دون تغيير الدلالة النحوية الدقيقة.
فباستخدام (لولا) وهو (حرف امتناع لوجود) أوجد الفرزدق برهاناً هندسياً للكرم.
لقد افترض الشاعر المستحيل (إلغاء التشهد) لبيان النتيجة الحتمية وهي أن الرفض بـ (لا) ينقلب إلى قبول بـ (نعم)
هذا الأسلوب هو قلب للمعاني في سياق افتراضي، وهو دليل على تملّك الشاعر لأدوات اللغة وتوظيفها بعبقرية.
رابعاً:
التصوير (الصور البيانية)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة البيانية الرئيسية هنا هي تصوير الرفض حرف (لا) كشيء مادي يمكن أن يتغير معناه ووظيفته اللغوية، وكما يلي:
• التجسيد للمفهوم:
الشاعر قام بتجسيد حرف (لا) وجعله كائناً يُنطق، ثم حكم عليه بالعدم في غير سياق التوحيد. هذا التصوير يجعل الكرم حقيقة ملموسة وقاهرة لدرجة أنها تسيطر حتى على وظائف اللغة لدى الممدوح زين العابدين.
• المبالغة الذكية:
الهدف من هذا التصوير هو الإشارة إلى أن الكرم فطري لدرجة أن الكلمات نفسها تغير دلالتها في فمه لخدمة صفة العطاء، فـ (لاءه) هي دائماً (نعم) لولا الضرورة الدينية.
أقول :
ـــــــــــــــ
ـ يتمتع البيت الشعري بقوة الأسلوب والجزالة، فهو مكتمل النضج اللغوي، موجز جداً، وكل كلمة فيه ضرورية، ويحمل معنى عظيماً في قالب بسيط ولكنه عميق التركيب (القصر، والشرط الافتراضي).
ـ إن إبداع البيت الشعري يكمن في تحويل صفة الكرم من صفة سلوكية إلى صفة لغوية جوهرية يتحكم بها الممدوح حتى في نطق الحروف.
ـ لقد أوجد الفرزدق توازناً فريداً بين الإسراف في المديح والاحترام الإيماني، جاعلاً هذا البيت الشعري تحفة فنية تحولَ فيها الحرف الواحد إلى (دلالة) على الكمال والجلال المتلألئ.
• والى بيانات قادمة بعون الله تعالى.
• احترامي وتقديري.
(كريم القاسم / بغداد)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
إرسال تعليق