(نشر النص الشعري) : الناقد العراقي كريم القاسم
(( أخي القاريء الكريم : لستَ مُجبَراً على التعليق . إقرأ فقط .. الغاية هي تعميم الفائدة .. إحترامي وتقديري))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( نـشـر النـص الـشـعـريّ )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنخصص المقالات القادمة للغوص في حيثيات وجزئيات مايسمى بـ (القصيدة النثرية) لكشف بعض بُؤَر الجودة والرداءة التي تتجذر في ثناياها من خلال الفعل النسجي والتأليفي على يد روادها .
لذا وجدتُ من الافضل أولاً تقديم مايناسب قبل الايغال في الامر للتعرف على النظرة النقدية لهذه البؤر والمحطات ، لان التعرف على الفعل النفسي والديناميكي للغاية من نشر النص الادبي يجب ان يكون هو العَتبة الاولى لهذه الرحلة النقدية .
هذا المقال يتناول فعل نشر النصوص الشعرية كونه اكثر الفنون الأدبية انتشاراً ، وأكثر الفنون التي يتمنى الكتّاب الانتساب اليه ، وسنناقش هذه الظاهرة من خلال دراسة الفعل (الفيسبوكي) وما يحيط به من شواهد وافرازات بشيء من الصراحة والوضوح ، لا لأجل البتر وإسقاط اليأس في النفوس ، إنما الهدف هو كشف بؤر الخلل وفتح النوافذ والمحطات التي تسمح بدخول الفكر النقي والطرق المثلى للتعامل مع فن الشعر .
ــ ان انتشار ظاهرة الكتابة الشعرية ساعد عليها ظهور ما يسمى بـ (القصيدة النثرية) ، وعندما نقول (مايسمى ) كونها حتى الان لم تحجز مقعدا بين الاجناس الادبية الأخرى في وطننا العربي ، ولكن إنصافا نقول بأنها أصبحت حالة متجسدة وواقعاً فعليا ، لكنها تحتاج في ذات الوقت الى مرتكزات وأسس واضحة لتحديد معالمها .
إن سهولة الخوض في هذا النوع من الكتابة ، وظهور الشبكة العنكبوتية جعل الكل يستيطع ان يضع بصمته في هذا الفضاء ، مما شجَّع على توليد وظهور طاقات متباينة في القوة التأليفية .
هذا الفضاء الفيسبوكي الحر والغير خاضع الى ضوابط القطع والقص والحذف جعل مِمَّنْ أراد خوض التجربة التأليفية يستسهل الامر ، كونها غير خاضعة لعين الرقيب ، حتى بات النشر كسوقٍ شعبي يعرض الغث والسمين والسقيم والصحيح ، والسبب في تباين النوع هو عدم معرفة بعض الأقلام بثقافة التأليف والكتابة ، مما ولَّدَ فعلاً تأليفياً عشوائياً غير منضبط ، حتى اصبح المتلقي ومَنْ أرادَ إلتقاط الفائدة مشدوها حائراً لايعرف الى أين يتجه وإلى اية وجهة يهتدي ، وكيف يُميّز النصوص الجيدة عن رديئها ، لأن الجميع يُفرِغ قربته في الّلاقرار ، وفي متاهات الرمال التي سرعان ماتجف او تتسرب مبتعدة عن العين .
لذا ...
نجد الناقد يبحث عن المفردات التي تتميز بالنكهة الشعرية ، أو النكهة النثرية ـ ان كان النص من فن الخاطرة أو القصة أوالرواية ـ ونقصد بهذه النكهة هي الخصائص الفنية التي تغلف النص .
ان فعل النشر الفيسبوكي وعشوائيته ، والركوب على صهوة العناوين الشخصية دون رعاية او دراية ، جعل من اقلام النخبة وعمالقة الادب العالمي ترصده وتتابعه بعين فاحصة مُترقّبة ناقدة مرَّة ومُنتقدة أحيانا .
• لنأخذ مثلاً ...
ــ الروائي والناقد الإيطالي الكبير ( أومبرتو إكو ) يتحدث عن فضاء النشر الحالي وانخداع بعض الكتّاب بأنفسهم ، حتى وصل بهم حدَّ الغرور ، فيقول :
" إن أدوات التواصل الحديثة مَنحتْ الحق لفيالقٍ مِن الحمقى كانوا يتكلمون في الحانات بعد تناولهم المُسكّر ، وكان يتم إسكاتهم فوراً ، أما الآن فأصبح لهم الحق أن يتكلموا مثل مَنْ يحمل جائزة نوبل للآداب "
ــ إن هذه العبارة القاسية المُقتطفة مِن إحدى رواياته والتي تنحو منحىً نقدياً وانتقادياً بارعاً لاذعاً تُحدِّد نوع وبؤرة هذه المشكلة .
إذاً المشكلة هي ليست مشكلة لغة دون لغة ، أو أدب دون أدب آخر ، بل هي فعل عشوائي عالميّ كونيّ .
• ولنأخذ مثلا آخراً ...
ــ وجدتُ منشوراً لأحد الكتّاب على أحدى صفحات الفيس بوك ، أضعه هنا لتقريب الصورة وربط الفكرة :
" من ربيعٍ الى ربيعٍ ،
ومن مقهى الى مقهى
وجدتها نفس الذكريات
وهي نفسها تدور
من زمن الى زمن .
* * * *
ذات صباح ..
مع دوامة الشاي حين أمزجه بالسكّر .
ومع أول إرتشافة
كان طيفكِ يخترق الحضور
ويزاحمني في مجلسي
ويشاركني الارتشاف ،
فكنتِ انتِ ،
ولستِ انتِ طيفا او خيالاً "
ــ المتأمل لهذا النسج سيجد ان لغة هذا النص هي لغة بسيطة واضحة بعبارات مُستهلكة ، وهي تدخل تحت خانة الاقصوصة ، ولايمكن ادراجها تحت خانة الخاطرة كونها بعيدة عن الرمزية والإيحاءات ، وحتى تشابك الاحداث والثيمات المعروضة وختام النص كلها تدخل في خانة السرد النثري . والبناء السردي واضح الورود ، ولو كتبه المؤلف بشكل اقصوصة فإنه لاينقص من جماله .
• ولنتأمل ذات النص لو كتبه المؤلف بصيغة المقطوعة النثرية أو يغلفه بغلاف الاقصوصة مع بعض التغيرات :
" " من ربيعٍ الى ربيعٍ ، ومن مقهى الى مقهى ، وجدتها نفس الذكريات ، وهي نفسها تدور من زمنٍ الى زمنٍ .
ذات صباح .. مع دوامة الشاي حين أمزجه بالسكّر ، ومع أول إرتشافة ؛ كان طيفكِ يخترق الحضور ، ويزاحمني في مجلسي ، ويشاركني الارتشاف ، فكنتِ انتِ ، ولستِ انتِ طيفا او خيالاً "
• لاشك إن المتأمل لهذا النسج الآن سيقتنع بأنه فن نثري جميل ، وسيقتنع بلاشك بجماله ، وبالتأكيد سيجذب الناقد العارف . لذلك يضع الكثير من الكتّاب اللوم على النقّاد لعدم تصديهم لبعض النصوص ، والسبب هو عدم اكتمال جاهزية هذه النصوص كي ينطلق الناقد بمشروعه التحليلي الصحيح ، وكذلك هي لاتحمل بطاقة ضمان .
• ومن المؤسف أن نجد أحد النقاد المتطفلين على النقد ، عندما صال وجال مادحاً ومقرظا وممجداً ومشيداً بهكذا شعر ــ النص اعلاه ــ بعد ان حصل هذا النص على مئات الاعجابات وعبارات التقدير والثناء ، وبمجرد إشارة ذاك الناقد الى هذا النسج كونه (نصا شعرياً) فهو قد وضع نفسه في خانة الغفلة والخيانة وعدم الدراية ، وبهذا يكون قد استغفل صاحب النص ايضا ، ولم يحمل له النصيحة الصادقة ، بل وحكمَ عليه بالانحراف التام ، كون المؤلف سيصدّق كل مايقوله ذلك الناقد .
ــ إذا ما غاية الناشر حين يدخل نصه عنوة ـ بمفرداته المستهلكة ـ مدخل الخانة (الشعرية) ويجعله على شكل اشطر وأسطر ؟
ــ هل يُخضِع المؤلف نصّه اجباراً ليتماشى كيفاً ومزاجاً مع فن الشعر ؟
ــ وهل يُجبر المتلقي على الاقتناع بأنه شاعر ، وإن ماينشره هو شعرا ؟
ــ ما الغاية مِن تبرّؤ القاص او الناثر من طبعه الفطري ليتمسك بعنوان (شاعر) ؟
• من المؤكد سيكون الحُكمُ هو الغفلة وعدم الادراك .
• مثال آخر ...
ــ نص منشور لكاتبةٍ على احدى صفحات الفيس بوك برتبة نص شعري :
" كم من الجمال احملُ أنا ،
وكم من القُبحِ تحملُ انتَ .
أتذكّركَ ...
كلما عانقتْ اشجاري حبات المطر ،
وكلما طار شالُ الحرير .
ليست يداكَ هي ...
إنما نسمات مساء .
كم تمنيت ان تكون هي ؟
وكم تمنيت أن يلامسك شال الحرير ؟
لعله يبوح بما خفيّ ...
فهو يُطبقُ على مغالق ومفاتيح ..
لكنكَ ...
كنتَ مجرد غباراً ،
أو عابرَ ريح "
ـ من يقرأ هذا النص سيجد جمال الفكرة بارزاً مشرقاً ، الجُمَل تم تركيبها بوضوح ، والخطاب هو خطاب انثوي ، لكن المتأمل لهذ النص سيجده يحمل روح السرد النثري ، وهذا لايقلق مرتبته او يحبط منزلته ، فكم من الجميل لو نشرَته المؤلفة بصيغة خاطرة بنكهة النثر ، ولنتأمل ذات النص لو كتبته المؤلفة بصيغة الخاطرة :
( كم من الجمال احملُ أنا ، وكم من القُبحِ تحملُ انتَ .أتذكّركَ كلما عانقتْ اشجاري حبات المطر ، وكلما طار شالُ الحرير . ليست يداكَ هي إنما نسمات مساء .
كم تمنيت ان تكون هي ؟
وكم تمنيت أن يلامسك شال الحرير ؟
لعله يبوح بما خفيّ ، فهو يُطبقُ على مغالق ومفاتيح ، لكنكَ كنتَ مجرد غباراً ، أو عابرَ ريح)
• أليسَ الآن هو أجمل ثوباً وأصدق موضعاً ؟؟
لكنها للأسف تصورتْ إن تسطيره وتقطيعه بهذه الهيكلية سيجعل قياسه شعريا بثوب قصيدة ، وهنا يقع الكثير في هذا الفخ الذي لاداعي لزَجِّ نصوصنا النثرية فيه .
ــ ولنرجع الى احدى التعليقات حول هذا النص مِن قبل معجب بعنوان (ناقد) عندما خرج عن المألوف وهو يقول :
" ما أجمله من كلام ، انه كلام ملائكي ، فالقصيدة كلها تحمل نغمة الشعر وموسيقاه "
هنا استوقفني التعليق ....
لاندري هل نوجّه صاحبة النص ـ وهي كاتبة مُتمكّنة من التأليف ـ الى الوجهة السليمة ، أَم نوجّه الناقد الذي جاء وهو يحمل قلماً مُجاملاً لايعلم أين يضع قدمه حين وصف النص بالملائكي واعطاه مرتبة القصيدة .
إن هكذا تصرف ممكن قبوله مِن مُتلَقٍ متذوق للادب وللفكرة ، وحتى المتلقي الكريم عندما يجد ناقداً ينطق بهذا الوصف فإنه بالتكيد يكون قد ابتلعَ درساً سريعاً بأن هكذا نسج هو قصيدة ، والطامة الكبرى والخطأ الدرسي سيلحق بالمؤلفة المسكينة التي تحمل مِن العتاد الادبي مالم يحملهُ ناقدها ، وستصرف هذا العتاد كله نحو هدف خاطيء بسبب تعليق غير مسؤول من قبل شخص غير مسؤول .
ولو كان الناقد قَد أبدى اعجابه بهذا النص من حيث تركيب العبارة وقوة الإشارة وجمال المفردة ووحدة الفكرة وغيرها ، ومن ثم يقدَّم نصيحة نقدية بأن هذا النص يحمل مرتبة فنيّة ادبية غير الشعر وبأسلوب وبطريقة لاتصل حد الانتقاد والخدش ـ وطرق ذلك كثيرة قد وفرَّتها الشبكة العكبوتية ـ لكان قد أراحَ ضميره وقدَّمَ درساً توعوياً مكثفاً سريعا للمتلقي وللمؤلف في ذات الوقت ، ولربما سيقود هذا الارشاد الى توجيه دفة المؤلفة الى الابداع والابتكار في مجال القصة والنثر كونها تمتلك المَلَكَة لذلك لكنها تجهل المرتبة والوجهة الصحيحة .
ــ لذلك نطالب كنقّاد بأن نكون بعيدين عن (التملق والحَمَق) في التعليق ، و أختيار اللفظ والمفردة الصحيحة التي تدعم المؤلف وتحصّنه من الخطأ ، بل ونقدم درساً مجانيا خاطفا مكثفاً لكل ناقد مبتديء ليتعلم الفعل النقدي السليم ، وقد يكون حكم وتقييم الناقد لايعجب الآخرين ، وعدم الرضى هذا لايؤثر على الحكم النقدي الصائب ، فالحقائق دائماً تحتاج عقول عارفة مُشرقة ، لذا يجب انتقاء مفردة النقد وإظهارها على سطح المائدة النقدية بصورة جاذبة ، كي نستطيع ان نُفهِمَ المتلقي بأن مايقرأه هو لغة شعرية ، وندرِّب مَلَكة المؤلف وذائقة المتلقي في ذات الوقت على التمييز بين فن النثر وفن الشعر، فلغة الشعر ليست كلغة الفنون الكتابية الأخرى من حيث نكهتها وخصوصيتها ، وليس كل نَول بقادر على نسجها . وليكن نشر النص الادبي في مرتبته الصالحة للعرض .
وإلى بيانات قادمة إن شاء الله تعالى .
احترامي وتقديري ....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ (ملاحظة) /
عرض الامثلة للنصوص اعلاه ليس لغرض الانتقاد و التجريح ، بل لغرض نشر الفائدة النقدية ، ولتوجيه (المؤلف) نحو جهة الصواب . وقد تم الاستئذان من اصحاب النصوص .
( وشخصياً اتقدم بالشكر الجزيل للأخوات والاخوة زملاء القلم الذين سنتناول نصوصهم تباعا على تفهمهم للامر ، وقد تقدّم الكثير برسائل فارهة مثقفة قد صَرَّحوا فيها عن مكنوناتهم وسبب توجهاتهم هذه ، وقد أبدى الجميع شكرهم وثنائهم لهذا التوجه والافهام مما أدى الى توجه دفة ابحارهم للوجهة التاليفية السليمة ، والحمد لله رب العالمين ).
تعليقات
إرسال تعليق