مركب المجاز الحيوي في نصوص الشاعرة السوريةسعاد محمد : الناقدالعراقي غازي أحمدأبوطبيخ
مُرَكَّبُ المَجَازِ الحَيَويّ
في نصوص الشاعرة سعاد محمد ..
( سوريا) ..
…………
…………
ألألفاظ هي إحدى أهم أدوات الشاعر الأساسية التي من خلالها يخلق نصه الإبداعي.
فهي التي نتعامل معها بدءاً بحسب مالارميه ،
كونها باتحادها السليم المفيد تمنحنا رؤية واضحة عن مستوى تجربة الشاعر أو الشاعرة سياقاً وأنساقاً،مع أنّ هذه الفعالية تجري عند شاعرتنا تلقائياً،فقد نضجت عندها الاداة التعبيرية وتنامى قاموسها الشعري إلى مستويات بليغة لافتة،فباتت تأتيها المفردات طيّعة،لتمنحها بدورها حياة جديدة،من خلال زجها في سياقات تعبيرية وتصويرية مفعمة بالإحساس والصور الناطقة.
وكلنا يعلم أن قصيدة النثر خاصة قد منحت كاتبها حرية أكبر في التصرف بالاداة التعبيرية، وهو ما نعبر عنه بتفجير اللغة كما يقول الشاعر الايرلندي شيموس هيني(أنْ تكون شاعراً في عالم كهذا يعني أنْ تحاكي شكله المتفجر في الحروب)1،وهذا النبض بالذات هو المناخ الذي تعيش في وسطه شاعرتنا،يتبدى بتمظهرات شتى في نصوصها تاركاً بصمته الواضحة ليس عليها وحسب،وإنما على مجمل النشاط الفكري والإبداعي في عموم الشرق العربي على وجه الخصوص،ولكن الشاعرة سعاد محمد تمكنت من تحويل هذا المناخ الى ماء الحياة الإبداعية لمعظم نصوصها،
بما فيها النصوص ذات القراءة المركبة للذات والموضوع في أن واحد.
إنما يبقى حسن التوظيف اللغوي هو الذي يميز شاعر عن آخر، إذ لم يعد اختيار اللفظ الجميل هو الهدف أو الغاية ،وإنما النجاح في إذابة المفردة في حقل دلالي آخر وفق اشتغال انزياحي مفعم يجعل القارئ مشاركاً في عملية الخلق من خلال تقصي المعاني بالقصيدة ومحاولة فهم مستوياتها،فمن كان يتخيل ان تكون مفردة (نعجة) مثلاً جزءاً من مركب جمالي شعري:
(أمُّنا فكرةٌ,
تحملُ في رحمها نعشَها
تارةً تلدُ ذئباً وأخرى نعجة!)،
ولكنّ شاعرتنا أفادت من الكتاب الكريم الذي استخدم الكلمة في أكثر من آية فمنحها شرعيتها الإبداعية،وأثبت في ذات الوقت أن جميع المفردات
ممكنة الإستخدام ،
ولاتوجد كلمة مطرودة من جمهورية الإبداع،لو أحسن المبدعون التوظيف السياقي السليم،قال تعالى :(( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه))*،ثم تكررت في نفس السورة أكثر من مرة.
من هنا استخدمت سعاد محمد هذه المفردة،كمثالٍ لحسن التوظيف، بالاتجاه التهكمي السليم.
ولغرض الإستدلال،نقدم إنموذجاً من نصوصها بعنوان (شركاء):
…
(للشّوكِ
وجهةُ نظرٍ أخرى
منافيةٌ للوردِ
تعفُّ عن ذكرِها الأهداب
من قالَ إنَّ الماءَ
لا يطعنُهُ ماء؟!
تتدرّبُ فينا الصّحارى
منذُ الهبوطِ الأوّلِ؛
والغرابِ الأوّلِ؛
والدّمِ المغشوشِ على شفةِ ذاكَ الجبِّ الشّهير
فلنقرَّ,إذاً,
بأنَّ عطشَنا البذيءَ هو بستانيُّ أرواحِنا!
فاللّيلُ يقلعُ من سهولِه النّجومَ لأنّها تعكّرُ صفاءَه!
ترجّنا الانبعاثاتُ..
و بقدسيّةِ الطّلْقِ نحجُّ من عتمتِنا إلى سطوعِنا
نعتنقُ وعورةَ الصّعودِ؛
لنعانقَ طائرَنا الحرّ
لكنْ؛
عندَ أوّلِ مبارزةٍ
مع البرد..
نطلبُ اللّجوءَ
إلى السّفوحِ الرّجيمة!
يا صديقي:
القممُ مُكلفةٌ..
مهرُها أكثرُ مما فُطمنا عليه من أجنحة!
فلنهدِ طلقةَ الرّحمةِ لشعاراتِنا الجريحة
و لنحتفلْ بسماحةِ آلهتِنا الرّماديّةِ
لمْ يعدْ بنا دربٌ يجرؤُ على الفطرةِ الشّريفة
فلتعوِ الغاباتُ عزلتَها البعيدة!
يا حزنُ..
يا نصلَ الغيمِ في بطانةِ العينِ
أمُّنا فكرةٌ, تحملُ في رحمها نعشَها
تارةً تلدُ ذئباً وأخرى نعجة!
وأبونا الأمسُ,
تركَ لنا على الرّملِ دروسَه
فكيفَ ستتعرّفُ علينا أسماؤنا؛
لتورثَنا معانيها؟!
لنْ أتّهمَ الفرحَ بالحصرمِ..
لكنّي أشهدُ
أنَّ بؤبؤَ عيوننا
بئرُ أكاذيب!
لنلمَّ شملَ ندوبنا الباهرة:
هاتِ ,يا صديقي, نرجسيّتَكَ
عن نصبِ الرّجولةِ الدّارجة
لأصبَّ عليها أنوثتي المُرّة
ولنشربْ
نخبَ صبا الضّوءِ المغدور
حتّى تنعتقَ أيدينا
وتقتلَ البريءَ فينا!
إنّنا من أمّةٍ
ترفّهُ الهزيمةَ وتغنّجُها ( بالصّمود)!
كلّنا يا صديقي..
كلُّنا شركاءُ في هذا الخراب!)..
…
لقد تمكنت شاعرتنا في هذا النص-كشاهد- من تخليق نوع من أنواع الإكسير الشعري،ذلك
المزاج التعبيري الجامع بين العمق الرؤيوي والوجدان المخصب بأصدق الاحاسيس والمشاعر والعواطف الإنسانية البالغة النشاط،وهو مانصطلح عليه شخصياً إسم(المركب الحيوي) ،وهو
الكائن الشعري الحي الناطق عبر أداةٍ تعبيريةٍ صقيلةٍ وعميقةٍ لاحشوَ ولافَضْلةَ فيها،وذلك ما يمسك بمشاعر المتلقي فلا يفيق من لذة الحلول في تفاصيل النص،بل من لسعات سياط النص الحميمة والموجعة معاً ،إلا بعد أن يكون النص ذاته قد تمكّن من رأسه وقلبه،مع أنها شاعرة نثر ،ولكنها من الثلة النادرة التي اثبتت شعرية قصيدة النثر الباذخة،قصيدة النثر الإنسية بكل مافي الإنسان من دخيلة( فكراً ونفساً وذاتاً وضميراً جمعياً)،وتلك تفاصيل في معنى الروح الكلي التي عبّر عنها جبران في النبي والأجنحة المتكسرة،والتي اسميناها بالمركب الإبداعي الحيوي.
صعب جدا-على غيرها-ماتفعله سعاد،إنها تحاول أن تكسر الحواجز بين الفلسفة والشعرية..بين الوعي العميق والمشعر السيكولوجي الشديد الرهافة، فتخلق مدمجاً متخماً بالحياة تخامر به النفس،من دون ان تفقد الوعي،إذْ لم نشهد لها أية تداعيات إلّا بعض الهمسات النادرة ،ربما تفرضها بعض احوال الضغوط المتراكمة على سيكولوجيا المبدع..سعاد لا تتداعى إبداعياً لأنها تريد أن تفكر من خلال الشعر،أليس الشعر الرائي خاصة طريقاً من طرق المعرفة؟..
تقول:
( هاتِ ,يا صديقي, نرجسيّتَكَ
عن نصبِ الرّجولةِ الدّارجة
لأصبَّ عليها أنوثتي المُرّة
ولنشربْ
نخبَ صبا الضّوءِ المغدور…).
هذه الهمسة تغري اي شاعر بالتداعي السريالي الحر،ولكنها لاتسمح بذلك ،لاتريد الغياب عن قطيعها التعبيري لحظة واحدة،بل تصر على إمساك العصا لتهش بها على حروفها ورب مآرب رؤيوية أخرى.. إذاً هي حاضرة الوعي ،
تكتب ماتكتب قراءةً ساخرة من مجريات الأحداث المحيطة، وهي تتمثلها في رئة القوة،كونها ترى بوضوح شديد،بعيداً عن عيون الجسد والأفعال العادية،وإنما باستيعاب متكامل للتجربة البشرية المخيبة على كل المستويات ،خاصة في عوالمنا المنفلشة المحبطة،ثم حين تندلع مفردات التكوين الرؤيوي المشهدي الدرامي باتجاه بسيطة الفعل الإبداعي تقوم بتغليفه بمجازها (المحنك)من دون أن تفقده كنوزه الحيوية،بل على العكس،فإنها تدفع في عروقه السياقية كل مجسات الوعي الإستبطانية،ومخزوناتها التحليلية الباعثة على الدهشة الواخزة..واللذة المعرفية المشتعلة بالهم والحس والإدانة والكشف والإثارة والشغف والإحتجاج معاً .
بالمختصر سعاد تجيد تفعيل المجس السيكولوجي النشيط في (ورشة) الفكر الإبداعي !!..
فماذا يمكن ان يتحدث الناقد عن شعرية تكاد تخلق بشريّاً تعبيرياً يكشف لنا ذواتنا قبل ذات الشاعرة نفسها،أو..ربما وصلت في أكثر من مشهد شعرى إلى مرحلة التجلي فيه بذاتها متلفعة ب(البيان المتقن، والبديع الجميل،والمعاني المعمقة).فتقوم حروفها بالنيابة عنها بجلد وعي المتلقي بلهوات الإدانة والإحتجاج:
(إنّنا من أمّةٍ
ترفّهُ الهزيمةَ وتغنّجُها ( بالصّمود)!
كلّنا يا صديقي..
كلُّنا شركاءُ في هذا الخراب!).
كشف فاضح ،وإدانة عميقة الأثر،من يملك أن ينكرها،أو يتحذلق دفاعاً عن نفسه في محاولة للقفز على الحقائق.
سعاد محمد إذَاً، شاعرة تعمل وفق معادلة تجمع بين:
*نضج التعبير. *ونضج التفكير. *ونضج التشعير،
فلقد منحت اللغة شاعرتنا كثيراً من أسرارها،لأنها لم تستخدم اللغة التي نعرف بشكل متكلف أو مقصود بذاته،وإنمااستنطقت صمت اللغة وجعلتها تتكلم بما تشتهي، ولعلها قرأت ما قاله الشاعر الصيني لوتشو (نحن الشعراء نصارع الّلاوجود لنجبره على أن يمنحنا وجوداً، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى)2.
فكتبت نصوصها التي لا تشبه لغة الآخرين ،ولكنها بكل تأكيد تشبه وعينا الذي نفهم به ومن خلاله ماتشي به إلماحاتها وإيحاءاتها مهما كان المجاز عنقودياً أو دفيناً.
ولقد قال ادونيس عن اللغة في قصيدة النثر ذات يوم : إنها إذابة لسبيكة ذهب
نحاول أن نخلقها من جديد،وهذا الخلق المبدع هو ديدن الشاعر الحقيقي الذي يتوجب ان يتسم بالديمومة،حتى يصل بمبانيه الإستبطانية القارئة إلى لحظة الكشف القصوى،عندها يختار بين أن يستمر بالغناء،أو يعلن المغادرة،كما فعل رامبو مثلاً.
ولقد نويت الوقوف المطول مع أنساق وسياقات شاعرة النثر الشامية المهمة سعاد محمد كمبدعة تستحق منا الكثير من الاحترام وحسن المتابعة كونها تتميز بإسلوبية بالغة الخصوصية، شكلًا في جانب ،كما وأنها عميقة المداليل مضمونًا في جانب آخر..
إنّ مباني هذه الشاعرة ،جديرة بالبحث والمدارسة كما أسلفنا،لأنها تمكنت من الإرتفاع بأداتها التعبيرية إلى مراقٍ عالية بالافادة الجمالية، ليس بقصد الاستعراض التعبيري -كما نلحظ هنا وهناك عند البعض من أصحاب التجارب الشعرية-وإنما بقصد توسعة إهاب وآفاق الاداة التعبيرية ذاتها بحيث تتسع لأعمق المحمولات العصرية، رؤيةً واستبطاناً ذاتياً وموضوعياً جريئاً.
ومن الجدير بالاشارة-وتلك رائعتها الفارهة-إنها تنطلق في منهجيتها تلك من الجذور التعبيرية العميقة للموروث الحي بأصالة بارعة فارعة.فهي حين توظف علوم البلاغة العربية الاصيلة التي ذكرناها آنفاًَ من:
* معانٍ..
* وبيانٍ
*وبديع..
إنما تفعل ذلك بشكل فخم ورقيق معاً،لأنها قد وصلت بها الى مرحلة بالغة الرشاقة ،بعيدة تماماً عن الترهلات أو الحشو التعبيري الزائد كما أسلفنا.
إنّ لغة سعاد ليست مغامرة تهويمية باحثة عن المعاني ،كلا،وإنما تنطلق من ملكة عامرة ومخزون ثر ينهمر بعفوية ناضجة تعبيراً عن المعاني الجاهزة أصلاً،وأعني جهوزية المضامين وتبلور الاحداث في ذهن المبدعة، ولو على صورة ظلال أولوائح،لأن ذلك كفيل-بعد ماذكرناه عن بلوغ الاداة التعبيرية مبالغ النضج والرسوخ-بصياغة المبنى الابداعي المكتنز.
وقد بات من الواضح أنّ هناك رسالة تحملها هذه المبدعةالاصيلة، رسالة تقصد من خلالها بالوعي التلقائي مايثبت أن السياق العربي الضارب في أعماق الموروث قادر بمرونة عالية على التعامل الحيوي مع آخر الحداثات الرؤيوية والفكرية المتداولة في آخر لحظات هذا الزمن المحتشد بالغرابة..
إنّ مَكَنة الأداة التعبيرية لديها أهّلتها إلى نوع من التنظير في بعض
نصوصها التي تنطوي على حس نقدي عميق ومحترف،يكشف ويوجه ويرسم الطريق السليم للإبداع.
والحديث هنا عن الشعر،وتحققات الشعرية،ومستويات الانتماء الى الادبية،وهو أمر لاريب متعلق بالاساس بمستويات الطاقة ومنها موهبة الشاعر..ة- اي شاعر أو شاعرة-ثم تاتي من بعد ذلك مديات الملكة حرفة ومخزوناً.
ولكن شاعرتنا سعاد محمد
قد ركزت هنا على جانب غاية بالاهمية كونه يأتي بحكم ضرورته بعد الموهبة مباشرة،ونعني به تحققات الشعور بتنويعاته المختلفة داخل النص ،وهو ما نصطلح عليه بمستوى النشاط النفساني في القصيدة بكافة طرازاتها،والشعر مرتبط في حقيقته بالشعور،اشتقاقاً واصطلاحاً وروحاً حيوية تقف من وراء قدرة النص على التاثير،بما يحقق أعلى مناسيب المعادلة الابداعية بين( الشاعر والمتلقي)،ولَكَم ردّدنا تكراراً مقولة فيشر( اعظم الشعر ماكتب بالجسد كله)، والمقصود ما ينطوي عليه الجسد من المشاعر والأحاسيس والعواطف كونها تمثل روح النص الشعري الحركية المؤثرة.
ولَكَم رأينا من النصوص الممنهجة المبرمجةالمحترفة الادوات( ولكن لاحياة فيها)،
إنه ذات الفارق بين زهرة من " البلاستيك" وزهرة من البستان !.
ألمطلوب إذاً أعلى درجات المصداقية المتدفقة بالنهر الشعوري الصافي،مع الإشارة إلى أنه كلما ترصنت المباني وتعمقت المعاني كان النص أبهى وأعمق.
وكما أن النقد زوايا نظر،فأنّ أساليب كتابة الفعل الابداعي كذلك ،كونها تعبيراً عن الرواية الداخلية لكل مبدع على حده،وبها ومن خلالها تتجلى خصوصية المبدعين .
ويعلم أصحاب الوعي العميق
والآفاق الواسعة إن لكل منهج دعاته والساعين على طريقته.
ومن بينها،الدعوة إلى اختيار ادب الالتزام ،وتلك دعوة مفتوحة البوابات،ومن أهمها اختلاف التآويل حول مفهوم الإلتزام نفسه،فمن النقاد من يدخل كل نص يعبر عن المشاعر الإنسانية في إطار الإلتزام،ونحن ممن يميل إلى هذا الرأي .
من هنا نحكم على أن نصوص هذه الشاعرة تندرج في هذا الإطار.
كما وأن الدعوة للتنازل عن المجاز،والإكتفاء بالمباشرة حالة غير إتفاقية إطلاقاً،وربما يظنها البعض تنازلاً عن الشعرية بحد ذاتها، حتى إذا افترضنا جدلاً الركون إليها ،فإنها ليست سهلة في واقعنا،ذلك لأنّ التوجه المجازي عموماً ،خاصة في هذا العصر،ضرورة تفرضها المناخات المشوبة بالقلق ،بحكم
الواقع الضاغط، المانع القامع.
ومن هنا بدأت رحلة المبدعين باتجاه الترميز حد عدم الاكتفاء بالتورية بل ركوب موجة التعتيم والضبابية،والاسباب معروفة لمن يملك ناصية الوعي.
إنّ أدب الالتزام وما يتماثل مع أهدافه من المناهج،ليس ميسراً إطلاقاً،لأنه يتطلب جهوزية في الفكرة ونضجاً في الاطروحة وسلامة وسلاسة في الاداة التعبيرية.هذا إذا حملناه على محمل الإلتزام الفني غير المتنازل عن الجمال. وذلك ما لا يتوافر إلّا لنوع معين من أصحاب المواهب الاصيلة المتجذرة ،القادرين على إبعاد منهجية الالتزام عن التسطيح والتقريرية الفجّة،ولاريب في أن قدرات شاعرتنا واضحة الخصوبة قوية الأداء،لكنها قد اختارت المجاز بوعي عميق لواقع الحال.وتمكنت من تحويله إلى مهماز لصيد لآلئ الأعماق ،وشبكة تعبيرية قادرة على الإمتداد باتجاه أوسع الآفاق.
فقلمها رفيع المبنى ،جزل السياقات ،عميق الانساق.إنما لاديبتنا حسن اختيارها،ولايحق لاحد أن يفرض عليها أو على غيرها توجهاً ما على الإطلاق.
هناك إشكالية كبيرة يمكن ان نصطلح عليها (ضريبة الوعي إذا جاز لنا التعبير)،ونعني بها إن وعي الاديب يفرض حضوره تلقائياً على الشاعر ،وهذا يعني أن سعة آفاقه وعمق رؤيته لابد أن تحضر في طيات عمله الشعري،ولكن مستوى موهبته وقدرته التحويلية ستحيلان هذا الحضور إلى عمق رؤيوي باذخ.
ولقد تلمسنا محاولات جادة في منجز سعاد محمد لإلغاء المسافة بين المجاز والواقع.بل احسسنا بوجود نية واضحة لتخليق شاعرية مفكرة تنزع الفتيل مابين الفلسفة والشعرية،وتلك مهمة عسيرة جداً،تقول في قصيدة اسمها ،،لاتنسى،،:
(لأنّكَ غِوىً على جنحِهِ ندُّ
لا تطيرُ؛ ولا تحطُّ
حتميٌّ؛ كنقلاتِ الزّمانِ على رُقعاتِ الأكباد
و سرابيٌّ؛ كتهويماتِ راهبةٍ؛
سقفُها آهةٌ في منام!
رواقيٌّ؛ قلبُكَ على ذمّةِ يديك)،ولكن شاعرتنا
تملك قدرة واضحة على ضخ الشعور الدفين العارف بكمٍّ سيكولوجي ضمنيٍّ كبير في طيات السياق التعبيري،لتخليق أنساق شعرية معمقة ونادرة.هناك إرادة مدهشة لصياغة اداة تعبيرية لاترضى بالسطوح ،بل تصر على حشد الصورة باكبر قدر من الاحاسيس والرؤى تكاد تتجلى واضحة في كل سطر .كما وتجدر الإشارة الى أنها قد أحكمت السيطرة على جميع الحرفيات نحواً دقيقاً وإفادة لغوية مكينةً ،وإفادة جمالية بالغة الحيوية والنشاط،بحيث توظف التشكيل( الحركات الإعرابية الاربع) من أجل خلق مدور إيقاعيٍّ دفين،فلاتقف على ساكن إلا عند الضرورة،مع الأخذ بعين الإعتبار أنه لايقطع السلسال الموسيقي الخبيء،وتلك ظاهرة كبيرة تحتاج الى تفصيل،لاتتحمله النظرة الإجمالية،إنما لا بد من الإشارة إلى أن الجذر الأعظم لوحدة المدور الإيقاعي قد سبق فيها التحقق الإعجازي في القرآن الكريم،شريطة إجادة أحكام التلاوة العميقة الإرتباط بتشكيل حروف الكلم،
ونعني إظهار الحركات الإعرابية الاربع بالكتابة والنطق المتصل بالترتيل المحكم،
لنتمكن بكل وضوح من الكشف عن الإيقاع القرآني المذهل،من أول حرف في البسملة،ثم الفاتحة ،حتى سورة الناس،عبوراً مرة أخرى إلى الفاتحة وهكذا في مدوّر منساب من دون انقطاع،لمن يجيد التلاوة المحكمة،وذلك من لطيف الاعجاز وعجيبه.ويبدو أن العلماء والنقاد القدامى قد انتبهوا لهذه الظاهرة المهمة،ولهذا أطلقوا على النص المقدس اصطلاح (النثر المرسل).
هذا الإرسال يعني ضمنياً اتصال الكلم القرآني بالجرس واحكام التلاوة من البدء الشريف حتى مسك الختام.
وتلك الثيمة اقوى أدلة الموسيقى في قصيدة النثر الناجحة.وتلك إحدى ثيمات نصوص شاعرتنا المميزة التي تحسب لها إضافة إلى سماتها الأخرى.
الواقع إن سعاد محمد قد تمكنت من توفير أعلى درجات الإقناع بشعرية قصيدة النثر،على رغم تحديات الواقع الثقافي. وسنختم حواريتنا معها بهذا النص الذي يمكن أن يكون مصباح دلالة على كل ما ذكرناه آنفاً .
تقول في قصيدة
،،السكاكرالمحرمة،،
(المصباحُ ناسخٌ رديءٌ
لأفكارِ الشّمسِ
بعد ألفِ نسخةٍ منقّحةٍ..
يخجلُ منَ النّظرِ في وجهِها
كذا القصائدُ بقلبٍ إصطناعيٍّ
كلُّ الحرائقِ المُفتعلةِ في أطرافِها مُوجبةٌ للصّقيعِ!)
وهذه إدانة واضحة لجميع النصوص الإستعراضية الفارغة من المحتوى المهم،
ومن المصداقية الحركية النشيطة،
كونها (بهذا القلب الإصطناعي)،لايمكنها ان تخدع الذائقة الرفيعة على الإطلاق.
تقول نصاً:
(كأنْ تضحكَ بعدَ صراعٍ مريرٍ مع الحنينِ
فقطْ..
كي لا يجدَ الحزنُ كرسيّاً شاغراً فيجلسْ!.).
إنها نوع من السخرية الدراماتيكية الناقدة،التي تعين الناقد ،على التمييز بين الغث والسمين،مشيرة بكل جرأة إلى ذاتها الشعرية العميقة،ويحق لها ذلك بالدليل:
( عمتَ لوعةً يا حبيبْ
أيُّها المُعتكفُ كحجّةٍ في قبّةٍ
أطلَّ على الجهةِ الخريفيةِ من الحلمِ
الحكايا في أواخرِها لا تُقاومُ
/كولعِ الأطفالِ بالسّكاكرِ/
ها أنا أصبُّ الوجدَ
أتسمعُ رنينَ الموجِ على بلّورِ العُتمةْ؟
أرفعُ الكأسَ
(فيتكرنشَ) جلدُ البحرِ
وأغمدُ /أحبكُ/ في نَفْسي
لنْ يتّهمِني الرّعدُ بالتّزويرِ
فقط..
سيزيدُ عمرُ هذا الصّيفِ نشوةْ
يرتجُّ دمي
فتجنحَ السّفينةُ
ينزلُ "بونابرت" على شاطئِ اللّيلِ
ويصرخُ :"فقدتُها"
ويهلعُ التّاريخُ ليراجعَ معلوماتِهِ !).
بهكذا أداء مائز لا يتحرج الناقد من إعلان إحساسه بالعمق والجمال سويّاً ،فيتراصف حد الحضور في دخيلة النص،تقول الشاعرة في نفس القصيدة:
(أحبّكَ..
حتّى لو لَطَمَتِ الخارطةُ وجهَها
أقولُها لِئلّا يطردَني الحبُّ من الوظيفةِ
الحبُّ مرابعٌ قاسٍ
لا يطيقُ العاطلينَ عنِ الشّغفْ
أحبُّكَ..
حتّى لو سرقوا نصفَ جمرِها على حواجزِ الأسئلةِ
فوصلَتْ زائغةَ المعنى وملجومةَ المذاقِ
كقطعةِ سكاكرَ مغلّفةٍ بألفِ تأويلْ
قد تكونُ تعويضاً عن خسائرَ لاحقةٍ في الذّاكرةِ
أو كإعلانٍ إنسانيٍّ لواهبٍ كبيرٍ
يوزّعُ على الأطفالِ "صدقة"!
في قلبٍ آخرَ سأتجنّبُ الارتطامَ بكَ
سأعرفُكَ حتماً
قلبي وضعَ عليكَ علامةَ "ورطةْ"!
أحبّكَ,لا تردّْ
سأغلقُ الكتابَ, وأخلدُ للحقيقةِ).
الحق يقال إن سعاد محمد شاعرة متحققة عميقة قوية الحضور مكتملة الأدوات: وعياً معمقاً ، وموهبة كبيرة، وقدرة تحويلية بارعة مبدعة صادقة،
وشاعرية نادرة المثال .
………...………
*ص/24.
[1]عدنان الصايغ إشتراطات النص الحديث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت طبعة 2008 ص37
[2]صفحة 303 من كتاب ، الفكر والشكل في الشعر السعودي المعاصر للدكتور مسعد عيد العطوي ،دار نشر المحرر الأدبي للنشر والتوزيع والترجمة..
…
غازي احمد ابوطبيخ
الموسوي
تعليقات
إرسال تعليق