PNGHunt-com-2

فن عنوان الرواية : الناقد العراقي كريم القاسم

أيها القارئ الكريم: هل تساءلت يوماً عن سر تعلّقك برواية دون أخرى، حتى قبل أن تقلب صفحتها الأولى؟ إن السر يكمن في تلك العتبة الأولى، في تلك الكلمات القليلة التي تُشعل جذوة الشغف أو تطفئها. إنه العنوان. فالعنوان في عالم الأدب ليس مجرد اسم، بل هو همسة أولى، ومفتاح ذهبي، يختصر رحلة، ويحمل وعداً. وبين فخامة اللغة العربية الفصحى وجاذبيتها العالمية، وبين قيود اللهجة المحلية و ضبابيتها، يقف الكاتب أمام مفترق طرق حاسم. فلنغُص معاً في هذا المقال لنتعرف على فن صناعة العنوان الرصين الذي يضمن لعملك العبور إلى القلوب وتحدي تقلبات الزمن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فن عنوان الرواية) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ عنوان الرواية هو البوّابة الساحرة التي يلج منها القارئ إلى عوالم النص، وهو النغمة الأولى التي تلامس وتراً في أعماق النفس. وعليه، فإن المأمول أن يكون هذا العنوان شاملاً واسع الأفق، يحمل صدىً يتجاوز الحدود الجغرافية وضيق الرقعة المحلية، متموضعاً بين الفصحى المشرقة واللهجة المقيدة. هذا التوجه لا يدعو بالضرورة إلى استعارة لغة أجنبية، بل يطمح إلى انتقاء مفردات عربية فصيحة، رصينة التكوين، متداولة المعنى، حتى وإن كان متن الرواية مغموساً في عبق لهجة مخصوصة. فالعنوان الفصيح هو جسر التواصل الذهبي، يمتلك القدرة على العبور إلى فهم القارئ أينما كان موقعه في خريطة الضاد الشاسعة، ممّا يوسّع أفُق انتشار الرواية ويضاعف فرصها في التوهج ضمن مكتبات العالم العربي. وعلى النقيض تماماً، فإن العنوان الغارق في المحلية أو اللهجة الضيقة قد يتحول إلى سدّ منيع، أو لغز عصيّ على الفهم، فيبتر بذلك حبل الوصال بين العمل وقرّائه المحتملين من أقطار أخرى. فالهدف هو اختيار عنوان جذّاب، مُعبّر، وفي الوقت نفسه مفهوم للجميع. فلنستعرض بعض الأمثلة على ذلك : عنوان رواية (صمت الفراشات) للأديبة الكويتية ليلى العثمان ، نجده يحمل ألقاً وشمولية، فهو عنوانٌ يُحلّق في فضاء الرمز والجمال، وله وقعُ الفصحى العذب الذي يستوعبه كل ذي لسان عربي. ويمكن إضافة أمثلة أخرى مثل عنوان رواية (أرض السواد) للكاتب الكبير والروائي عبد الرحمن منيف، نجده يتميز بالفصاحة التاريخية ودلالته على العراق الخصيب، مما أكسب الرواية ثقلاً وملحمية، وضَمَن لها القبول والانتشار عالمياً وعربياً. فالعنوان موجز، لكنه يرمز لعمق الموضوع وجدّيته، متفقاً مع رصانة العمل التاريخي. ورواية (ظل الريح) للكاتب الاسباني كارلوس زيفون، حيث يتميز هذا العنوان بالغموض الشاعري والرمزية الآسرة، ويوحي بالبحث عن الأسرار والماضي الزائل، ممّا يثير فضول القارئ العالمي، ويضمن له انتشاراً واسعاً بفضل فصاحته وشموليته العابرة للثقافات. أما العنوانٌ الذي يُحتملُ فيه الانحسارُ المناطقي فيجب تجنبه مثلاً لو قلنا (سكوت الفراشات) فقد تُفهَم هذه العبارات في محيطها الضيق، لكنها تفتقر إلى هالة الجاذبية واحترافية السَبك التي يتمتع بها العنوان الفصيح. كما أن دار النشر، وهي بوصلة الاحترافية الفنية والذائقة التسويقية، تميل بالفطرة إلى احتضان العناوين الفصيحة، لأنها تخلع على العمل الأدبي ثوب الجدية والرصانة، وتسهّل عملية تصدير الرواية وتسويقها بكفاءة عالية في المحافل الأدبية ومعارض الكتب العربية والدولية. والأهم من ذلك، أن العنوان الفصيح هو الرهان على الخلود والصمود في في وجه تقادم الأيام. فبينما تتلوّن اللهجات المحلية وتتبدل، تبقى اللغة العربية الفصحى أصلاً ثابتاً، ومرجعاً معيارياً، يضمن استمرار فهم النص وعبوره للأجيال المتعاقبة دون تشوّه أو غربة. لا يمكن إنكار أن للقاعدة استثناءات تبرهن على نفسها بقوة التجربة وعبقرية الإبداع. هنا يبرز عميد الرواية العربية الأستاذ(نجيب محفوظ) الذي إرتاد عناوين (شعبية) أو عامية في بعض روائعه، مثل (الحرافيش) و (زقاق المدق) و (الكرنك). لكن هذا الاستخدام لم يكن مجرد صدفة أو نزوة، بل كان قراراً فنياً مؤسَّساً ينبغي وضعه في سياقه الثري، لثلاثة أسباب رئيسية: أولها: روايات محفوظ كانت مرآة صافية لحياة الحواري المصرية القديمة، حيث كانت الشخصيات والأحداث واللغة نسيجاً واحداً من هذا الواقع المُعاش. لذا، لم تكن كلمة (الحرافيش) مجرد عامية، بل كانت كاشفاً فلسفياً واجتماعياً عميقاً يخدم روح العمل بشكل مثالي. وثانيها: حين أصدر محفوظ هذه الأعمال، كان قد أصبح قامة راسخة، وهرماً أدبياً شامخاً. إسمه وحده كان بمثابة تأشيرة دخول لقلب كل قارئ، تمنحه الثقة المطلقة بأن العمل هو تحفة فنية تستحق القراءة، بغض النظر عن العنوان. وثالثها: الكلمات التي استعملها محفوظ، مثل (الحرافيش) و(الكرنك) لم تكن كلمات عابرة، بل كانت حمّالة دلالات تاريخية وثقافية عميقة ضمن الذاكرة المصرية، مما منحها ثقلاً تجاوز مجرد العامية. وعليه، يجب التنويه بأن (الكاتب) الجديد، أو الذي لم تتألّق شمس شهرته بعد، لا يملك ترف (الحالة الاستثنائية) التي كان يتمتع بها نجيب محفوظ. في مرحلة بناء الصرح الأدبي، يظل العنوان هو السفير الأول، والخطّاف الجاذب لعين القارئ الذي لا يعرف الكاتب بعد. لذا، يرى النقد الادبي أن المخاطرة الفنية في استخدام عنوان عاميّ أو محلي قد تكون كبيرة، لأنها قد تُضَيِّق من دائرة انتشار العمل، وتجعله يبدو أقل احترافية في نظر بعض القراء أو لجان دور النشر، وقد تفقده القدرة على التواصل مع قارئ يجهل السياق الثقافي لتلك المفردة. ولذلك أقول: على الرغم من أن نجيب محفوظ برهن بعبقريته أن العنوان المحلي يمكن أن يكون آسراً وقوياً، فإن هذا النجاح يظل استثناءً باهراً لا يصح أن يُتَّخذ قاعدة عامة. فالقاعدة الذهبية التي تضمن أفقاً أوسع للانتشار هي العنوان الفصيح الأنيق، ويبقى اللجوء إلى العامية مرهوناً بوجود مبرر فني قوي وجذري، كمبرر نجيب محفوظ. إذاً يظل العنوان هو الميثاق الأول بين الكاتب وقارئه. وبينما تُعاقر اللهجات المحلية حدودها الضيقة وتذوي بمرور الزمن، تبقى اللغة العربية الفصحى هي النهر الجاري الذي يسقي شجرة الإبداع، فتورق وتزهر في كل أرض. فليكن عنوانك أيها الكاتب نافذة مُشرعة على أفق رحب، لا سجناً محلياً يقيّد أجنحة روايتك عن التحليق. اخترْ اللفظ الأنيق، والرمز العميق، لتضمن لعملك خلود الروح وعالمية الانتشار. • وإلى بيانات قادمة بعون الله تعالى. • احترامي وتقديري. (كريم القاسم / بغداد) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

همسة بأذن كل !! العرب :شيخ شعراء مصر..عباس الصهبي